“الطاولة المستديرة” .. كيف تحولت “الأسطورة التاريخية” إلى “أداة إدارية”؟
تعتبر “الطاولة المستديرة” أحد المناهج العملية البحثية التي تستخدم في مجال وضع السياسات وإيجاد الحلول وفتح أبواب للمستقبل، وتقوم في مبدأها الأساسي على إشراك الأشخاص المعنيين بالقضايا والمواضيع المطروحة باعتبارهم يمثلون عامل “استشارة ذوي الصلة والخبرة” في دورة حياة صُنع السياسات الحكومية والوطنية.
تستخدم العديد من المؤسسات- التي تهدف لتطوير آليات عملها والارتقاء بمخرجاتها من خلال معرفة آراء الأطراف المعنية بعملها- هذه الممارسة العلمية لتكون آلية مفعلة بشكل دائم، حيث تهدف آلية “الطاولة المستديرة” إلى طرح وإثارة قضايا ومواضيع آنية ذات بعد استراتيجي ولها أثر مباشر على المواطن أو العميل وعلى المؤسسات المختلفة بما يخدم تطوير عمل المؤسسة بشكل خاص أو قطاعات الحكومة بشكل عام.
يمكن تعريف “الطاولة المستديرة” على أنها: “اجتماع يُعقد بين عدة أطراف يناقشون موضوعا معينا يمتلكون الخلفية العلمية والخبرة المهنية بشأنه، وذلك بهدف الوصول إلى نتيجة أو توصيات. وتنتهج الطاولة المستديرة أسلوب الحوار المفتوح للتعبير عن الآراء ووجهات النظر ومناقشتها. ويجلس حضور الاجتماع على طاولة مستديرة الشكل، الهدف منها تساوي الجميع دون وجود تسلسل هرمي أو امتياز لأحد في موقع الجلوس، وتمتعهم بالتالي بنفس الحقوق والصلاحيات والحريات لإبداء الرأي النقاش”.
لا تقتصر استخدامات “الطاولة المستديرة” على جوانب معينة، بل يمكن الاستفادة من هذه الآلية في مناقشة مواضيع متعددة في أي مجال كان، ابتداء من أعلى المستويات السياسية وصولا حتى لأبسط نموذج كاستخدامها في مناقشة قضايا عائلية.
هناك عدة روايات بشأن ظهور مصطلح “الطاولة المستديرة” لأول مرة، لكن الأغلب يرجح أنها أنشئت لأسباب سياسية متعلقة بالحكم في بريطانيا العظمى، حيث أنشأها الملك آرثر في القرن الخامس الميلادي وكان مكان إنعقادها في قلعة “كاميلوت” مقر حكمه وإقامته، حيث أُقر هذا الأسلوب لجمع الرجال المؤثرين في سلاح الفرسان، وهو ما أسس لإطلاق مسمى أسطورة “فرسان الطاولة المستديرة” لاحقا. وكان يعمد الملك آرثر إلى إجلاس الفرسان ورجال السياسة على الطاولة دون أية فروقات هيكلية بحسب المناصب أو أعراق العوائل، وكانت تثار في هذه الطاولات مواضيع مرتبطة بسياسة الإمبراطورية البريطانية وشئونها ومعاركها ضد الساكسون وغزوها لفرنسا والنرويج وآيسلندا والدنمارك وضمها لاسكتلندا وإيرلندا، والأهم كان لضمان الاستقرار بداخل مرامي المملكة. وتاريخيا توقفت الطاولة المستديرة بعد موت الملك آرثر واندلاع الحرب الأهلية، لكن عاد العمل بها بعد عدة قرون، وتوثق الكتب أنها عادت للظهور كوسيلة للاجتماعات في فرنسا وأسبانيا قبل أن يعرض الملك ادوارد الأول ملك إنجلترا الطاولة المستديرة الشهيرة في قلعة وينشستر عام 1284 للميلاد ويعاد استخدامها في عقد مثل هذه النوعية من الاجتماعات.
في مقابل ذلك هناك روايات أخرى تقول بأن “الطاولة المستديرة” ليست اختراعا إنجليزيا، بل سبقتهم إلى ذلك بقرون بعيدة وتحديدا في القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد الدولة السومرية في بلاد ما بين النهرين، وتحديدا من خلال الملك التاريخي جلجامش، حيث يشير المؤرخون إلى أنه أول من أسس طاولة مستديرة يجلس إليها الحكماء لمناقشة شئون مملكته عبر طرح جميع الآراء دون تفضيل لأحد على أحد.
ولأن بدايات ظهور “الطاولة المستديرة” تاريخيا كانت لأهداف سياسية، فإن هنالك أمثلة عديدة استخدمت فيها هذه التقنية للوصول إلى حلول بشأن قضايا سياسية شهيرة، من ضمنها على سبيل المثال لا الحصر مؤتمر الطاولة المستديرة في بروكسل 1960 بين زعماء جمهورية الكونغو والحكومة البلجيكية والذي انتهى بإعلان استقلال الكونجو، كذلك سلسلة الطاولات المستديرة التي عقدت في لندن خلال عامي 1930 و1931 بين الهند وباكستان بحضور المهاتما غاندي ومحمد علي جناح وتضمنت أجندتها التفاهم بشأن مستقبل الهند وضمان حقوق المسلمين في الدستور قبل الانفصال والاستقلال، والأمثلة عديدة على قرارات هامة شكلت منعطفات تاريخية بشأن عديد من الملفات استخدمت فيها آلية “الطاولة المستديرة” للنقاش بين جميع الأطراف وتبادل وجهات النظر والوصول إلى تفاهمات مشتركة، أي أن هذه الوسيلة أثبتت فعاليتها بشكل واضح وعلى أعلى المستويات.
تقنيات “الطاولة المستديرة” غير معقدة، بل عكس ذلك، فأسلوبها مبسط وطريقة إدارة الحوار فيها تضمن مشاركة جميع الأطراف دون تمايز أو تفضيل، وطريقة الخلوص إلى التوصيات سلسة باعتبار أن جميع الأفكار تم طرحها ومناقشتها وتم تنقيحها في سبيل الوصول إلى أفضل الممارسات والحلول.
هيكلية الطاولة المستديرة تتمثل بمدير للحوار والنقاش ويفضل أن يكون شخصا محايدا، أو يمثل جهة يهمها ما يدور في النقاشات بين الأعضاء، وقد يكون مدير الجلسة أحد الأطراف المهم تداخلها في الموضوع لما يمتلكه من خبرات ومعرفة، شريطة الالتزام باتاحة المجال للجميع على حد سواء لإبداء الرأي والنقاش مع مراعاة ضبط الوقت بشكل عادل. بموازاة ذلك يتوزع أطراف الحوار والنقاش على الطاولة بحيث يتمكنون من رؤية بعضهم البعض، ويحرص من خلال ذلك تطبيق مبدأ المساواة حيث استدارة الطاولة تضمن عدم تميز أحد بموقع في صدر الجلسة كما يحصل في طاولة الاجتماعات المستطيلة.
يبدأ مدير الحوار بافتتاح الجلسة عبر طرح الموضوع المخصص للنقاش مع إعطاء خلفية مختصرة عنه، وبعدها يوضح للحضور المدى الزمني للجلسة وتقسيمها، سواء أكان هناك عرض رئيسي لمتحدث ما، أو طرحا لبنود متعاقبة تنتهي بنقاشات وتفاهمات، وصولا إلى وضع التوصيات أو الحلول كختام لفعاليات الطاولة المستديرة، وهنا قد تكون الحاجة لطاولة أخرى تعقد في وقت آخر بين نفس الأطراف أو أي طرف يُرى ضرورة تواجده، وغالبا ما تتركز هذه الحالات في الشأن السياسي الذي يحتاج إلى مداولات طويلة للوصول إلى نتائج أو اتفاقات. ويتولى مدير الطاولة مهمة ترتيب المشاركات والمداخلات، وكذلك حصر الأسئلة وترتيب عملية تقديمها والإجابة عليها، بالإضافة إلى إعلان ختام فعالياتها بعد التأكد من استيفاء كافة أعمالها المقررة.
عملية تدوين المداولات والنقاشات ومضامين الحوار في الطاولات المستديرة هامة جدا، وذلك بغرض التوثيق أولا، ومن ثم لإعداد التقارير والملخصات المعنية بنتائج الحوارات والنقاشات، وأيضا بهدف النشر إن كان موضوع الطاولة المستديرة مقدرا له مشاركة فئات خارجية فيه، سواء أكانت نخبا معينة أو للعامة، وتترك هذه العملية لفرق التنسيق المختصة بإعداد التقارير.
أيضا حضور الطاولة المستديرة لديهم ميزة التداخل في المناقشة وطرح التساؤلات على الحضور، وهذا الأمر مرتبط بنوعية الطاولة المستديرة القائمة، سواء أكانت مفتوحة لعدد معين من المشاركين ضمن فئات محددة، أو كانت مقتصرة على الأطراف المعنية بالقضية موضوع النقاش، وبعض الطاولات المستديرة يتم السماح لوسائل الإعلام بحضورها أو أجزاء منها.
الخلاصة بأن هنالك ديناميكية واضحة لاستخدام آلية الطاولة المستديرة كأداة إدارية فاعلة يمكن تلخيصها بشكل مبسط كالآتي: إذ البداية تتمثل بتحديد موضوع مهم للنقاش، ويكون ذلك بهدف إما إثراء الموضوع وأخذه لأبعاد أخرى، أو بهدف وضع توصيات وحلول في اتجاه التطوير والتقدم. بعدها مهم جدا تحديد الأعضاء المطلوب وجودهم للنقاش على الطاولة، وتحدد ذلك معايير تخصصهم وتأثيرهم وخبراتهم. بعدها يتم تحديد مدير للحوار تكون بحوزته الأسئلة المفتاحية التي بموجبها سينطلق النقاش، وسيكون المدير مسئولا عن إدارة المداخلات بحيادية وعدالة في توزيع الوقت، وكذلك في احتواء أية مواقف يأخذ فيها النقاش منحى حادا، فالهدف ليست المواجهات بل الوصول لاتفاقات وتفاهمات وخلق أرضية مشتركة. تتاح بعد ذلك فرصة لطرح الأسئلة من قبل أعضاء الطاولة في حالة وجود متحدث رئيسي يعرض موضوعا معينا، أو أسئلة من قبل حضور الفعالية ممن لا يتواجدون على الطاولة، وتعقب ذلك عملية صياغة التقرير الذي يتضمن أبرز ما تم طرحه وأهم التوصيات والنتائج، وغالبا يفضل ألا يزيد زمن فعالية الطاولة المستديرة عن 50 دقيقة أو ساعة كحد أقصى لضمان وجود أعلى درجات التركيز.