تفرض الأزمات والظروف غير الاعتيادية على الأوساط العملية والمهنية اتخاذ إجراءات استثنائية هدفها الحفاظ على “ديمومة الأعمال” والثبات على مستوى الإنتاجية وتحقيق الأهداف دون تأثر، أو أقلها الوصول لتحقيق نسبة مقاربة لها في الأوضاع العادية. أبسط الأمثلة الحية التي مازال العالم يواجهها يتمثل في أزمة وباء “كوفيد ١٩” وما فرضته من تغييرات كبيرة على شكل الأعمال ودفعها لاتخاذ أساليب جديدة في العمليات الإدارية بهدف إدارة العمليات وتنظيم عمل القوى البشرية بما لا يخل بمستوى تحقيق الأهداف والوصول للإنتاجية المطلوبة.
أبرز التغييرات التي فرضتها الجائحة تمثلت في إدارة الأعمال بعيدا عن المكاتب واعتماد طرق وأساليب جديدة على رأسها ما أُسمي بـ”العمل من المنزل”، وهو أسلوب نجح بشكل كبير في ضمان استمرار دوران عجلة الأعمال ولو بنسبة أقل من الأوضاع الاعتيادية بما يحقق الإنتاجية المطلوبة عبر التزام القوى البشرية بالقيام بمهامها الوظيفية وإن كانت عن بعد.
تُعرف الإنتاجية على أنها: “قدرة المؤسسات والأفراد على الإنتاج وتحقيق الأهداف المنشودة من خلال ربط مدخلات العمليات من موارد مادية وبشرية متاحة مع مخرجاتها التي تعتبر الهدف من كل هذه العمليات، وترتفع نسبة الإنتاجية كلما ارتفعت نسبة الاتقان والفعالية في استغلال هذه الموارد لتحقيق أعلى مستوى من جودة المخرجات”.
الإنتاجية باتت المعيار الفاصل الذي يقرر مدى نجاح الأساليب الإدارية المتبعة خلال الأزمات وعلى رأسها أسلوب “العمل خارج المكاتب”، والذي أصبح السمة الأبرز في عالم الإدارة والأعمال خلال أزمة وباء “كوفيد ١٩”، إذ اللجوء إليه كان أمرا حتميا لتجنب تعريض البشر لخطر الإصابة وانتشار الفايروس في جانب، ولضمان ديمومة العمل واستمرار الإنتاجية في جانب آخر.
العمل خارج المكاتب كان الأسلوب الأمثل للتعامل مع الأوضاع التي فرضتها الأزمة، إذ الأزمات تفرض إجراءات يتوجب اتخاذها للحفاظ على ذات الوتيرة الخاصة بالأداء والإنتاجية التي كانت عليها خلال الأوضاع العادية. وتتميز إجراءات الأزمة بأنها ناتجة عن قرارات استثنائية اتخذت وفق معطيات معينة توضح السبل الممكنة لتسيير الأعمال دون التعرض للمخاطر، وهذه الإجراءات تتميز بأن لها مدى زمني يرتبط باستمرار الأوضاع الاستثنائية أو تفاوت حدتها في مراحل معينة، وتكون معايير هذه الإجراءات متحركة وغير ثابتة وتغلب عليها طابع المرونة في التطبيق والتعامل، وأخيرا تكون أساليب إدارة العمليات فيها “استثنائية” و”غير تقليدية”، ومن خلالها تم إعادة تنظيم العمل، بل أصبحت سمة إدارية تستحق التوسع في تطبيقها بعد ثبوت نجاحها في بعض الوظائف والقطاعات.
فكرة العمل خارج نطاق وحدود المكاتب ليست وليدة اليوم، بل نشرت عدة دراسات وأبحاث خلال العقد الماضي حاولت قياس تأثر الإنتاجية في حال تم الاعتماد على أساليب العمل عن بعد والاستعاضة عن التواجد الفيزيائي في المكاتب، وإحدى الدراسات التي أجرتها جامعة “هارفرد” في عام ٢٠١٢ خلصت إلى وجود فوائد عديدة للعمل بعيدا عن المكاتب على رأسها إحساس الموظف بأنه غير مقيد مكانيا وذهنيا، وهذه الاستقلالية الفيزيائية يمكنها أن تنعكس إيجابا على الجانب الإبداعي وعلى نسبة التركيز. والأخيرة كانت إحدى العوامل التي ركزت عليها دراسات أخرى بحثت في جدلية جدوى الاعتماد على سياسة “المكاتب المفتوحة” عبر جمع عدد من الموظفين في موقع واحد عوضا عن “المكاتب المغلقة” التي تقتصر على موظف واحد في مكتب خاص، وكيف أن عنصر التركيز هو الحكم هنا، إذ أشارت تلكم الدراسات إلى معدل مقاطعة للموظف من قبل زملائه كل ثلاثة دقائق أثناء عمله في مكتبه الخاص وبمدى زمني أقل لو كان في المكاتب المفتوحة، وهو ما أطلق عليه “المخاطرة بمحاصرة الموظف بعوامل التشتت وعدم التركيز”.
ورغم أن “العمل بعيدا عن المكاتب” كان خيارا مؤثرا في الحفاظ على ديمومة الأعمال والإنتاجية خلال الأزمات، إلا أن هنالك تحديات برزت في هذا الجانب معنية بعملية القياس والمتابعة والتأكد من التزام الموظفين وقيامهم بواجباتهم على الوجه الأكمل، فبرزت بالتالي أساليب متنوعة في عملية المتابعة بداية من اعتماد طريقة الاتصال المرئي للاجتماعات وحتى البقاء على المكاتب في المنازل طوال ساعات العمل، والاعتماد على تقارير الإنتاج اليومية لكل موظف.
لكن في المقابل برزت عدة تحديات أمام هذا الأسلوب غير التقليدي، خاصة ما يرتبط بعمليات الرقابة والمتابعة الإدارية، فقياس الالتزام بساعات العمل يكاد يكون أمرا شبه مستحيل، إضافة إلى وجود نسبة متفاوتة بين إنتاجية موظف عن آخر، وهذا قد يخلق نوعا من الإحساس لدى الموظفين بأن القياس والأحكام الصادرة عن السلطة الإدارية غير عادلة إذا ما عقد الموظفون مقارنات فيما بينهم تحددها عوامل الالتزام والتواجد والإنتاجية، بالإضافة لبروز معضلة كبيرة في تطبيق هذا الأسلوب تتعلق بمحاولة البعض استغلال الوضع للركون إلى الراحة وتخفيف ضغط العمل والتهرب من الالتزام بشكل يومي واعتبارها كأنها جزء من أوقات الإجازة. لذا انتشرت أساليب إدارة إنتاجية الأفراد من خلال المشاريع أو من خلال الأهداف والمخرجات بدلا من الحرص على مدخلات العمل مثل الحضور المكتبي وغيره.
عوضا عن ذلك فإن التحديات لن تقف عند الحدود الداخلية للعمل الإداري في المؤسسة، بل هناك الجانب المعني بنظرة العملاء خاصة حينما تصدر أحكامهم على الأداء من خلال ملاحظة سلوكيات الموظفين العاملين بعيدا عن المكاتب، ويحصل أن يتم رصد أحد الموظفين في مكان عام أثناء وقت الدوام الرسمي، وهو ما يمنح الفرصة لانتشار الشائعات أو نشر معلومات غير صحيحة عن المؤسسة نفسها، خاصة وأن نظرة العملاء وإدراكهم لطبيعة ونوعية الأعمال لا تكون حاضرة بشكل شمولي وواضح، فبدلا من الحكم من خلال ديمومة الإنتاجية ومستوى الجودة المقدمة بالنسبة للخدمات يكون الحكم على سلوكيات الموظفين، وهنا قد يكون ما تفعله صحيحا في وقت الأزمات لكن نظرة المجتمع تختلف وتؤثر فيما يتعلق بالسمعة المؤسسية، وهذه إحدى المخاطر التي يجب وضعها في الاعتبار؛ إذ إخلال شخص واحد في واجباته أو تصرفاته قد يؤثر على بقية زملائه وحتى موقع عمله عبر خلق صورة نمطية سلبية عنه.
لكن رغم المخاطر الموجودة تظل الأسئلة مطروحة بشأن آلية العمل خلال الأزمات، مثل: هل يمكن استمرار العمل خارج المكاتب حتى بعد انقضاء الأزمة؟ وكيف يمكن قياس الإنتاجية وقت الأزمات؟ وما هي الطرق الأمثل للحفاظ على مستوى الإنتاجية؟ وكيف يمكن تغيير النظرة التقليدية للحضور الفيزيائي باعتباره أساسا للإنتاجية؟
إبراز الإيجابيات المرتبطة بالنجاح في تسيير الأعمال وتحقيق نسب إيجابية من الإنتاجية هي أفضل الإجابات على هذه التساؤلات، وهنا تأتي أهمية “الأرقام” وإبرازها كنتائج لبيان نجاح انتهاج هذه الأساليب ولإقناع الإدارة العليا بجدواها وأهمية استدامتها وكذلك لإقناع شريحة العملاء بأن ما يتم انتهاجه هي أفضل الأساليب للتعامل مع الأزمات. إذ خلال أزمة وباء “كوفيد ١٩” لجأت كثير من المؤسسات الحكومية والتجارية لاعتماد المنصات والتطبيقات الإلكترونية كخيار أول للمتعاملين بما سهل عليهم عمليات التواصل والحصول على الخدمات دون تكبد مشقة الذهاب لمكاتب خدمة العملاء، الأمر الذي وفر عليهم الوقت ومنحهم خيارات مرنة تتناسب مع ظروفهم وتجنبهم مخاطر التعرض للاختلاط البشري وإمكانية انتقال العدوى.
على مستوى المنظومة الإدارية سواء للحكومات أو المؤسسات كلا على حدة كان أسلوب “العمل بعيدا عن المكاتب” فرصة لاختبار القدرة على تقنين كثير من العمليات واختصار مراحلها، كذلك كان فرصة للتعرف على مستوى إنتاجية الأفراد حينما لا ترتبط بتواجدهم الفيزيائي في مواقع العمل، وهنا ستبرز بالضرورة نجاحات على مستوى الابتكار الإداري والعملي. أيضا قياس قدرة المؤسسة على موائمة عملياتها اليومية مع المتغيرات الخارجية، ما يعني اختبار قدرتها وجاهزيتها على مواجهة الأزمات والتكيف معها من خلال إيجاد الحلول المبتكرة.
ومن المهم هنا إدراك أن الحكومات في وقت الأزمات تراعي غالبا تحقيق التوازن بين مصلحة العمل ومصلحة المجتمع، وذلك عبر اتخاذ قرارات تراعي الظروف الإنسانية وإن كانت بشكل استثنائي ووقتي لكن هدفها الحفاظ على التوازن المجتمعي على المدى البعيد، مثلما حصل في مملكة البحرين عبر تطبيق سياسة العمل من المنزل بنسب متفاوتة تحددها مؤشرات نظام “الإشارة الضوئية” الذي تم اعتماده بشكل فعال، إضافة لمنح صاحب الجلالة ملك البحرين الأمهات العاملات وضعا خاصا لمتابعة تحصيل أبنائهم العلمي من خلال العمل من المنزل كشريحة ذات أولوية.
في اعتماد آلية “العمل خارج المكاتب” قد يكون هناك رصد لحالات يثبت فيها التسيب أو استغلال الأوضاع بشكل غير مهني، لكن هنا يتوجب إدراك بأن هذه الأمور مرتبطة بفترة زمنية مؤقتة تحكمها المرحلة الحالية، وعليه يأتي دور الإدارة كلاعب أساسي في عملية ضبط الأداء والسلوكيات وضمان سير العمليات وذلك عبر المتابعة الدائمة وتقويم الأخطاء واعتماد المرونة وربط كل موظف بنسبة الإنتاجية المطلوبة منه.
هنا يبرز تساؤل هام: إذ هل بعد زوال الأزمات يتوجب العودة فورا إلى نظام العمل السابق بشكل حرفي أم يستحسن العودة بشكل تدريجي ومرن؟! والإجابة تكمن في أنه يمكن العودة إلى نظام العمل السابق لكن الإدارة الذكية هي التي ستستفيد من المرحلة السابقة وأساليب العمل التي اتخذت في عملية تطوير النظم الإدارية والطرق الأمثل لتحقيق الإنتاجية، وذلك يأتي من خلال التمسك ببعض الآليات التي انتهجت وأثبتت فعاليتها على رأسها استمرار الاجتماعيات المرئية التي أثبتت جدواها وتميزت بإيجابيات عديدة، حتى ولو كانت بين الموظفين بداخل المكاتب عوضا عن كونهم في المنزل. أيضا يمكن التفكير في جدوى إعادة هيكلة بعض الوظائف بحيث تضاف إليها مرونة في ساعات العمل خاصة بالنسبة للأمهات العاملات أو الذين يعانون من ظروف صحية معينة بما يراعي الحالات الإنسانية. مع أهمية التمسك باستمرارية انتهاج الأساليب الابتكارية في العمل وتحويلها لمنهج عملي يومي.
أخيرا تظل الإنتاجية هي المعيار الأساسي المرتبط بجدوى كل هذه العمليات، إذ كلما زادت الانتاجية أو حافظت على نسبة ثبات في تحقيق الأهداف المرصودة كلما كان الحكم على جدوى أساليب العمل التقليدية أو الاستثنائية أكثر دقة وأكثر واقعية.