النجاح في تحقيق الأهداف العامة لأي عمل يرتكز على مقومات الإدارة الصحيحة، والتي تستدعي أولًا الإدراك الواضح لماهية هذه المرتكزات، وتأتي عملية فهم المصطلحات المعنية بهذه المرتكزات كأساس عام، إذ بدون فهمها ومعرفة تفاصيلها والفروقات أو التشابهات فيما بينها، فإن الأعمال لن تتم بطريقة منهجية صحيحة.
هناك خلط شائع بالنسبة لهذه المصلحطات، وفي مقدمتها الخلط في فهم مصطلح “السياسات” وعدم التفريق بين أنواعها مثل السياسات الحكومية العليا التي تصدر من أعلى مستوى في صناعة القرار والسياسات العامة والسياسات الحكومية إضافة للسياسات الخارجية على مستوى الدولة وعلاقاتها بنظيراتها، وهو ما يتضح في خلط البعض بين السياسات العامة والخدمات، ووجود مطالبات بتعديل الخدمات بينما المطلوب هو تعديل السياسات أو الإجراءات المعنية بهذه الخدمات.
أيضا هناك خلط شهير بين “السياسات” و”الاستراتيجيات” و”الإجراءات”، ويمكن ملاحظة ذلك عبر محاولة الحصول على إجابات محددة ومتشابهة من قبل ممارسي الإدارة العامة على سبيل المثال، عبر طرح التساؤلات التالية: “ما هي السياسات”؟! و”ما هي الاستراتيجيات”؟! وبأيٍ منهما ترتبط الإجراءات”؟!
يمكن تعريف “الاستراتيجيات” على أنها “خطط منهجية تتضمن طرقًا وأساليبًا مبنية على فنون التخطيط، وتقوم على فن إدارة العمليات بشكل منظم وشامل ومتكامل لا يغفل أية جوانب، فيما يتم توجيه الموارد البشرية والمالية ضمن الإمكانيات المتاحة لتحقيق أهداف قصيرة أو متوسطة أو طويلة المدى، أو حل مشكلات معينة، وتصل الاستراتيجيات في محصلتها النهائية لتنفيذ أهداف السياسات/الإصلاحات العليا التي تشكل منطلقًا لها”.
أما “السياسات” فيمكن تعريفها على أنها “مجموعة تشريعات (قوانين، قرارات، قواعد لازمة) تتشكل على هيئة حزم إرشادية وخطوط عريضة، تقوم على إرساء ملامح العمل الحكومي والخدمات لصناعة القرارات وتوحيد ثقافة العمل، من خلال تنظيم النشاطات وعمليات التنفيذ وتحديد دور المسؤولين، بهدف تحقيق رؤى وأهداف رئيسة تمثل منطلقات السياسة العامة، وتتطلب التزامًا جماعيًا بها من خلال إجراءاتها الموحدة”.
السياسات لن تظهر آثارها إلا من خلال وضعها موضع التطبيق، في حين يمكن تعريف “الإجراءات” على أنها “خطوات تفصيلية للعمليات، تترجم الخطط والسياسات العامة إلى أساليب تنفيذية، ويفضل أن تكون مكتوبة أو مرسومة مساراتها، بحيث توضح كيفية تنفيذ العمليات وفق مراحل وأطر زمنية وتحدد المسؤول عن التنفيذ، وعادة تقر جوانبها الإدارة العليا وتشترك في تنفيذها جهات حكومية متعددة تعمل بشراكة، أو كجهة واحدة بحكم التخصص، ويكون هدف الإجراءات هو تحقيق الغايات والأهداف وإنجاز المهمات عبر أداء ثابت يؤسس لعمليات متكررة بناءً على النموذج الناجح الذي تم اختباره”.
التنفيذ يقودنا لـ”الإجراءات”، وهي عملية لابد وأن تكون محكومة بالسياسات، وهنا من المهم معرفة أن “كل خدمة لابد وأن تكون لها سياساتها وإجراءاتها”، بحيث يتبعها الموظفون بشكل دقيق ومنظم وصولًا لإنجاز المهمة أخيرًا.
تتنوع السياسات بحسب عوامل عديدة، لكن يمكن حصر ثلاثة أنواع تمثل الأكثر استخدامًا، أولها “السياسات العليا/Grand Policies” وتكون مرتبطة بالقيادة في أعلى الهرم الإداري في الحكومات، وتختص أكثر بعمليات التغيير الشامل والتطوير وإجراء الإصلاحات. أما النوعان الأشهر في العمل الإداري، فأولهما “السياسات الحكومية” وهي المعنية بالخدمات “داخل الحكومة” مثل وضع سياسات للأعمال وللتوظيف وللتدريب على سبيل المثال، والنوع الآخر “السياسات العامة” وهي المعنية بالخدمات الموجهة للشرائح المختلفة في المجتمع، مثل الخدمات الإسكانية والصحة والتعليم وما يُعنى بالمواطنين والمقيمين.
هنا لابد للاستراتيجيات من بلوغ الغايات والأهداف التي وضعت لأجلها عبر تحقيقها جميعًا، إذ هذا هو المسوغ الأول لوجودها، ورغم ضرورة أن تكون الاستراتيجية شاملة لا تغفل أي جانب إلا أن اتسامها بالمرونة أمر مطلوب ليسهل تطبيقها عبر تكيفها مع الظروف. ولضمان وجود استراتيجية فعالة وناجحة لابد من تحقيق عدد من العوامل الرئيسية على رأسها معرفة الوضع السابق والحالي والمستقبلي للتغيير المطلوب تحقيقه، وتحديد عناصرها ومكوناتها، وأيضا تحديد الوسائل والأدوات التي ستُستخدم في التطبيق، إضافة إلى ضرورة توفير البيئة المثالية والعوامل المحيطة المساعدة لتنفيذ الاستراتيجية.
هنالك ثلاثة مراحل هامة لتعزيز “السياسات” وتقويتها وتطويرها، إذ بغض النظر عن كون غالبية السياسات مكتوبة وبعضها لا، فإنها في حاجة دائمة لإعادة هندسة حتى وإن كانت السياسات مثالية وناجعة، فالحاجات تتغير بتغير الزمان والظروف والأشخاص. هذه المراحل تبدأ بـ”التصميم” الذي يبني السياسة وفقا للسياسات العليا والأهداف، ومن ثم “التنفيذ” الذي تتم فيه عمليات المراقبة والتحكم، تليها “المراجعة” التي تهدف إلى التنقيح والتطوير، تتخللها عملية “التوثيق” الهامة جدا لصناعة “ذاكرة مؤسسية” عبر نماذج مثالية يمكن الرجوع إليها، وعملية “التواصل” لأهمية إشراك وتوعية المجتمع بشأن هذه السياسات ودورها وتأثيرها على حياتهم العملية والاجتماعية.
هل يتم تطبيق “السياسات وإجراءاتها” بشكل صحيح؟! سؤال يُطرح عادة، وهو ما يقود غالبا لمراجعة السياسات أو الإجراءات، لكن هذه المراجعة لابد وأن تُبنى على أساس، وهو ما يتمثل هنا بعملية جمع الأدلة والبراهين والمعلومات والتغذية الراجعة من قبل الشرائح المستهدفة، سواء عبر استطلاعات لآرائهم أو اجتماعات تُعقد معهم، تتم بعدها دراسة وتحليل البيانات المتوفرة، وهنا تصبح عملية الارتباط المجتمعي بالسياسات عامل مهم بإمكانه أن يكتب للسياسات وإجراءاتها النجاح والتطوير والتحسين في آن واحد.
لابد وأن تمتاز “السياسات” بعدة سمات هامة، أهمها الواقعية وإمكانية تنفيذها وقياسها وتقويمها، وأن تقود لهدف نبيل مجتمعي، ويمكن التأسيس عليها للمستقبل عبر استمراريتها، وأن تتميز بالنظرة الشمولية التي تصب بالدرجة في مصلحة المواطن (Public Intrest)، وتكون ديناميكية قابلة للتطوير والتنقيح، وقبل هذا كله ضرورة اعتماديتها كسياسة شرعية من قبل الجهات العليا.
التكاملية بين هذه المرتكزات (السياسات، الاستراتيجيات، الإجراءات) واتباع تسلسلها وارتباطها المنطقي تمثل قمة النجاح في إدارة الإصلاح الإداري بشكل يحقق الأهداف ويخلق الشعور بالرضا والثقة لدى الشرائح المستهدفة، لكن حتى يتم الوصول لهذه الدرجة من التكاملية، لابد من الإدراك الصحيح لمفاهيم هذه المرتكزات والمصطلحات والفروقات فيما بينها، ودور كل منها، سواء لدى ممارسي العمل الإداري أو عموم الناس.