من أهم عوامل تعزيز الإنتاجية لدى الموظفين في أوساطهم المهنية هو شعورهم بالأمن والاستقرار الوظيفي، وهما عاملان يؤثران بشكل كبير ليس على الفرد فقط، بل على منظومة العمل بأكملها والتي تتأثر بالضرورة بتأثر الجانب النفسي لدى موظفيها، ولذلك تحرص المؤسسات والمنظومات الناجحة على خلق أجواء تعزز الشعور بالأمان لدى موظفيها وتسعى دائما لتثبيت دعائم الاستقرار الوظيفي الذي بدوره يمثل نجاحا جوهريا لأي وسط مهني يهدف إلى الديمومة والنمو.
يمكن تعريف الأمن والاستقرار الوظيفي على أنه “حالة مهنية مثالية تخلق شعورا إيجابيا مؤثرا على نفسية الموظف في عمله، وتعزز لديه الشعور بالانتماء والولاء المؤسسي، وتخلق لديه الثقة بالاستدامة مع صون حقوقه وتأمين مستقبله، بما يدفعه إلى التطلع للتطور والتطوير، وتنعكس إيجابا على العمل المؤسسي بما يحقق له تقدما ملحوظا وأداء مستقرا”.
تتباين نسبة تحقق الأمن والاستقرار الوظيفي ما بين القطاع العام الذي يقع تحت مظلة الحكومات وما بين القطاع الخاص المتأثر بالضرورة بالمتغيرات الاقتصادية على وجه الخصوص، إذ درجة الأمن الوظيفي في القطاع الخاص تقل نسبتها عن القطاع العام، فالأخير تُستبعد فيه عمليات خسارة الوظيفة عبر الاستغناء أو تقليص النفقات في أغلب الحكومات حول العالم، وهو ما يجعل فرص الاستقرار في القطاع العام أعلى بكثير.
لكن رغم التعميم بشأن الضمان المهني بالنسبة للقطاع العام في هذا الجانب، إلا أن التحديات بشأن وجود الأمن والاستقرار الوظيفي لا تزال قائمة، لكن ضمن نطاقات مختلفة، هي بالأحرى معنية ببيئات العمل والأساليب الإدارية المتبعة فيها، والتي يمكن عبر تطبيقها بطرق غير صحيحة أن تكون أكبر مهدد للأمن الوظيفي للموظفين.
الممارسات الإدارية الصحيحة بإمكانها بناء كل شيء بلا استثناء، ففي القطاع الحكومي يمكن خلق بيئة آمنة تقود إلى تعزيز الإنتاجية وإشاعة السعادة وتشجيع الكفاءات للعطاء والاستقرار. يكفي أن يُعطى الموظف أبسط حقوقه كالترقيات والحوافز والتطور الأفقي في الهيكل الوظيفي، وأن يُمارس عمله في جو من الاحترام المتبادل والثقة ليعتريه شعور بالاستقرار والإحساس بالأمان في وظيفته، لكن في المقابل الممارسات الإدارية الخاطئة هي التي من شأنها تحقيق نسب عالية من فقدان الأمن والاستقرار الوظيفي، بل تعتبر أحد أهم المثبطات لإنتاجية الموظفين وأدائهم، مما قد يلقي بآثاره على حياتهم الاجتماعية.
تحقيق الاستقرار الوظيفي والبيئة المهنية الآمنة يعني استمرار الموظفين لمدد طويلة في مواقعهم مع ضمان عطائهم الوظيفي، وهو ما يعني وجود تراكم للخبرة سيقود لأداء أفضل وإنتاجية أكبر، خاصة وإن تنامى لديهم الإحساس بالانتماء والولاء المؤسسي في ظل وجود التقدير والتطوير الشخصي، وهنا يبرز دور المسئول وصانع القرار في صناعة ثقافة المؤسسة التي تخلق البيئة المستقرة الآمنة.
دور القائد مهم بدرجة كبيرة في صناعة الأمن والاستقرار الوظيفي، إذ عليه إدراك أهمية موقعه بالنسبة للموظفين من ناحية تمثله أولا بدور القدوة والنموذج، وصناعته ومن ثم ضمانه للبيئة الصحية التي تبعد عنهم الإحباط وغياب التركيز والاكتئاب، مع الحرص على تجنب سطوة الإدارة العاطفية للمسئول على الإدارة المهنية الاحترافية، والتي معها تختل معايير العدالة والمساواة. بالتالي أولى دعائم الاستقرار الوظيفي في مواقع العمل تتمثل بإشاعة أجواء العدالة الإدارية، وهذا يكون عبر الاحتواء المتزن من قبل القائد لموظفيه، والحرص على تطويرهم بشكل مستمر، مع تعزيز أساليب المعاملة الإيجابية وإعطائهم الثقة ومنحهم الصلاحيات بناء على المسئوليات المناطة بهم، وحل المشكلات معهم بروح الفريق الواحد، مع أهمية إشراكهم في صناعة الغد وضع المشاريع وخطط التطوير ليكونوا جزء من قصص النجاح فيها.
وهنا لا يتوجب إلقاء العبء بأكمله على القائد أو المسئول أو صانع القرار، إذ يلعب قطاع الموارد البشرية دورا محوريا أيضا، فعلى عاتقه تقع مهمة تعزيز تكافؤ الفرص وحفظ الحقوق وإشاعة أجواء العدالة ومحاربة التمييز والسعي لاحتضان الكفاءات ورعايتها وتطويرها عبر منحها التقدير اللازم المستحق وظيفيا، والاهتمام بملاحظاتهم وحل مشاكلهم، وكل هذا يساهم في صناعة الولاء المؤسسي ويخلق دافعية مستمرة لدى الموظف نحو العطاء وتقديم الأفضل.
أيضا الموظف نفسه عليه مسئولية تجاه عملية تحقيق الأمن والاستقرار الوظيفي، إذ الالتزام بالواجبات الوظيفية واتباع اللوائح والتمثل بالإجراءات والمشاركة الإيجابية في فرق العمل والمبادرة في طرح الأفكار الإبداعية كلها أمور تولد لديه الإحساس بالأمن والاستقرار الوظيفي، خاصة إن قوبل التزامه وجهده بالتقدير والتحفيز. إذ مشاعر القلق تزيد بشكل تلقائي لدى العناصر التي تتقاعس عن أداء واجباتها وتفقد الرغبة في العمل بإبداع وتميز، وعليه تجد لديها إحساسا دائما بعدم الاستقرار والتخوف من المستقبل.
صناعة الأمن والاستقرار الوظيفي مهمة تشترك فيها كافة أطراف العمل الرئيسية، من قيادة إدارية تملك صناعة القرار، وقوى عاملة بيدها العطاء والتعامل بإيجابية دائمة مع متطلبات العمل، بالإضافة لوجود إدارة للموارد البشرية والمالية تضبط العمليات وتحرص على حفظ الحقوق وتحقيق العدالة، وبذلك فإن تمثل كل طرف من أطراف هذه المعادلة بواجباته المتوازنة ومسئولياته تجاه الأطراف الأخرى بدرجة عالية من الحرص والاهتمام سيسهم في تحقيق هذه الوضع الآمن والمستقر، والذي يعتبر أبرز السمات التي تتميز بها مؤسسات ومنظومات العمل الناجحة والمتميزة.