يقول المثل الإنجليزي: “الحاجة أم الاختراع Necessity is the mother of Invention”، وهذه الحاجة هي التي قادت البشرية لتشهد ولادة آلاف الاختراعات والابتكارات في شتى المجالات. ابتكارات غالبيتها وجدت لحل مشكلات موجودة أو أزمات فجائية تطرأ دون توقع، وحققتها شخصيات تميزت بأسلوبها المتقدم في عملية التفكير الابتكاري، هذه العملية التي لو برع فيها كل إنسان لوجد لكل مشكلة حلا يكاد يكون مثاليا ومتفردا.
هناك تعريفات عديدة للتفكير الابتكاري يمكن اختصارها وتبسيطها بأنها: “نمط تفكير قادر على الإتيان بأفكار غير اعتيادية وغير مألوفة، تنتج عنها حلول غير مسبوقة، تنجح في تقديم الجديد الذي يتناسب مع الموقف الحالي، أو تبتكر معالجات ذكية ومبهرة تختصر الوقت والجهد وتبسط العمليات وتسيرها في اتجاه تحقيق الهدف المنشود، كما أنها تحصد تفاعلا إيجابيا من الجمهور المستهدف”.
ولأننا ربطنا العملية بالحاجة للاختراع الناتج عن الابتكار كما نص عليه المثل الإنجليزي أعلاه، فإن سؤالا هاما يطرح نفسه، إذ هل الابتكار مطلوب فقط حين توجد الأزمات، أو حين تكون الحاجات ملحة وطاغية؟
البعض يرى الابتكار وقت الأزمات أقرب ما يكون كأسلوب استراتيجي يُستخدم عند الحاجة، إذ المشكلات أو الأوضاع غير الاعتيادية تتطلب حلولا مختلفة أو جديدة بالتالي الابتكار هنا عنصر أساسي في تحقيق ذلك، لكن الإيجابي أن يكون التفكير الابتكاري ومساعي الإتيان بحلول إبداعية نمط حياة يومي مستمر يدخل في كل شيء، وهنا يتحول التفكير الابتكاري إلى تحد مستمر لقياس قدرة الفرد على تقديم الأفضل والأذكى.
الأزمات والكوارث والمشكلات الصعبة تحتاج إلى حلول ابتكارية مستمرة، خاصة إن تبين بأن الحلول التقليدية لا يمكنها مواكبة التداعيات والتطورات، وكمثال ذلك ما فرضته أزمة انتشار وباء كوفيد 19 عالميا، إذ من ضمن الحلول الابتكارية التي طُبقت وكانت مملكة البحرين من ضمن الدول المتصدرة لاستخدامها حل التحول إلى الرقمنة الإلكترونية، وهو نهج موجود قبل الأزمة لكنه شكل مجالا خصبا لابتكار الحلول المتنوعة والمتداخلة في شتى مجالات الحياة بهدف التسهيل على البشر وضمان ديمومة الأعمال واستمرار دوران عجلة الاقتصاد.
هنا لابد من إدراك نقطة بالغة الأهمية؛ إذ الحلول الابتكارية قد تُبنى على واقع موجود متمثل باستراتيجيات معتمدة، أو اختراعات مستخدمة، وهنا يأتي التفكير الابتكاري إما ليطورها للأفضل أو يستثمر في جوانب معينة ضمن تفاصيلها ليبتكر أساليب أكثر فاعلية تتوافق مع الحاجة الآنية، وحتى الاختراعات إن اعتبرنا بداياتها كشرارة صغيرة فإن التفكير الابتكاري هو الذي يغذي جذوتها ويقودها لتكبر وتزدهر وتتشعب من خلال الحلول العديدة المنبثقة عنها.
في مواجهة تفشي وباء كوفيد 19 جاء التفكير الابتكاري ليسرع من عملية التحول إلى الرقمنة من خلال ابتكار حلول متعددة هدفها التحصن من الوباء عبر: تقليل المخالطة البشرية، تقنين النفقات، تعزيز التعاون الجماعي، القدرة على تحقيق المرونة في العمل، تسهيل العمليات واستمرار تقديم الخدمات للفئات المستهدفة، وكان ذلك عبر تطبيق آليات العمل عن بعد والاعتماد على الاجتماعات المرئية عبر تطبيقات ووسائط إلكترونية متعددة بالإضافة لتحويل أغلب الخدمات المقدمة للعملاء من خلال البوابات الإلكترونية.
هناك نماذج على مؤسسات في كل دول العالم لديها توجه قوي داعم للتفكير الابتكاري، وهو ما يميزها عن بقية المؤسسات من خلل التحرر من الأفكار التقليدية الروتينية ورفض التمسك بالنمط السائد القائم على أن الثابت لا يجب تغييره حتى لو طرأت أمور تؤثر عليه، وهذه الفكرة الأخيرة غير إيجابية أبدا إذ شواهدها كثيرة على امتداد السنوات السابقة وكيف تحركت مؤسسات بقوة للأمام عبر انتهاجها للتفكير الابتكاري وكيف ظلت مؤسسات في موقعها بل تقهقرت ودخلت في الخسائر لأنها تمسكت بالفكر التقليدي، كمثال بسيط على ذلك الطفرات التي حصلت في سوق صناعة الهواتف الذكية والكاميرات الرقمية.
لذلك فإن التفكير والسلوك المنظم الابتكاري حاجة لمواكبة المتغيرات التي تحصل يوميا، ومن أسس نجاح المؤسسات في تثبيت مواقعها وديمومتها وتجويد خدماتها وتطويرها للأفضل، وهو ما يستوجب الاقتناع بهذا النمط من التفكير مع الإيمان بأن الاستعداد لما قد لا يحدث لا يعني إطلاقا خسارة للوقت والجهد، بل هو استثمار في عملية تهيئة المناخ المناسب لانتاج الحلول من خلال فريق يضمن عناصر تتميز بالأفكار الابتكارية التي تقدم أفضل الحلول وتختصر الوقت وتقلل الجهد والتكاليف وتحقق رضا العملاء، وهذه العناصر الأخيرة هي التي يمكن لها تحديد نسبة فعالية الحل الابتكاري المطبق.
هناك عناصر هامة مطلوبة لضمان تحقيق عمليات التفكير الابتكاري لأهدافها المنشودة، فمثلما أشرنا أعلاه لأهمية تهيئة المناخ الملائم واختيار فريق يمتلك القدرة على الابتكار، فإن ادراك حجم المشكلة والإلمام بكل جوانبها أمر أساسي غالبا ما يغفل عنه كثير من العاملين في هذا المجال، إذ بناء عليها تتحدد سرعة التحرك وفاعلية الحل المنشود. وفي التفكير الابتكاري لابد وأن تكون النتائج مبتكرة وبعيدة عن نتاجات الفكر التقليدي وذلك من خلال قبول كل الأفكار المطروحة بمرونة تامة في البداية قبل تصنيفها وإخضاعها لمحددات إمكانية تحققها ومواءمتها مع الظروف المحيطة، لأن النقطة الأخيرة هي الفيصل في استمرارية هذه الأفكار كحلول ناجحة أم تحتاج لتطوير.
بالتالي يجب عدم التسرع في اعتماد الحلول والمقترحات والأفكار، ولا يجب التمسك بأفكار أحادية بل الأفضل إيجاد توافق جماعي عليها، وإن تم ذلك فإن المهم هو الاستمرار في تطوير الحل المبتكر وفقا للمتغيرات، إذ في التفكير الابتكاري وقت الأزمات يجب وضع سيناريوهات قادمة وتوقع عقبات يمكنها إعاقة الحلول، وهنا فتح الباب على كافة الاحتمالات مسألة لازمة مع قبول الفشل في أي مرحلة، إذ تحقيق التغيير المؤثر يحتاج أحيانا لأفكار مبتكرة تبنى على ما سبقتها من أفكار وتعلم مستمر من الفشل.
التفكير الابتكاري ليس حكرا على فئة من البشر، بل هو نمط تفكير وسلوك عمل يتطور بالصقل والتدريب على المنهجيات والأساليب والأدوات العلمية، التميز فيه يحقق إيجابيات عديدة على الفرد والمجتمع، فهو في محصلته يصنع وسطا أكثر وعيا وذكاء وقدرة على التعامل الإيجابي مع مختلف الظروف، هو يصقل مهارات الفرد ويدفعه باتجاه التحدي ويشجع طرح الأفكار الجديدة بلا تردد، وينعكس جماعيا عبر تقوية التفكير الجمعي وتذليل الصعوبات في الأوساط المسئولة بما يحسن جودة المنتجات والخدمات.
هناك منهجيات عديدة للتفكير الابتكاري تقوم في أساسها على الحاجة الملحة منه، وعليه ظهرت بعض الأنواع التي تقوم على هدف الممارسة مثل “هندسة الابتكار المقتصد” Frugal innovation والذي يعنى بتقليل التعقيدات والتكاليف عبر اتباع طرق أكثر سهولة وذكاء وأقل تكلفة. كما اتجهت الحكومات إلى ما يُسمى بـ”حوكمة الابتكار المتوقع” Anticipatory innovation governance والقائمة على تطوير واختبار مناهج جديدة قائمة على البحث العلمي في مجال الابتكار ومد جسور التعاون فيها مع الشركاء المتعددين. بالإضافة إلى تعزيز مهارة “التفكير التصميمي” Design thinking لتكون أداة أساسية في كل ابتكار يهدف لتطوير العمليات وتحديثها.
وهنا سؤال يبرز بقوة، إذ كيف نشجع التفكير الابتكاري؟ كيف نطوره؟ وكيف نجعله ثقافة دائمة في مجتمعاتنا؟ والإجابة تكمن في إزالة كافة المعيقات التي تعرقل هذا النمط من التفكير أولها إبدال الثقافة السائدة بشأن ” الخوف من التغيير والفشل” إلى ثقافة “التجديد” من خلال تشجيع كافة الأفكار الجديدة، وفتح مجالات أرحب للتفكير داخل وخارج الصندوق، ودفع الناس للإفصاح عن أفكارهم وعدم التردد في اقتراح الحلول، إضافة إلى حثهم على تعزيز ثقتهم بالنفس وعدم التساهل بالقدرات الذاتية، وتيسير عملية توثيق الحقوق الفكرية.
لذلك لجأت بعض المؤسسات إلى إنشاء إدارات للابتكار أو فرق عمل تهتم بتنمية قدرات التفكير الابتكاري، على سبيل المثال قيام معهد الإدارة العامة (بيبا) بإنشاء مختبرات للابتكار، وذلك بهدف جعل هذه الممارسة عملية منظمة ومبرمجة تتحول في النهاية لثقافة دائمة لها إنعكاساتها على الأوساط المهنية وأيضا على الأوساط الاجتماعية من خلال مخرجاتها، فالمجتمع الذكي دائم التطور هو الذي يكون أفراده أصحاب عقول منشغلة دائما بصناعة أفضل الحلول والابتكارات لمواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية والتغلب عليها. وطبعا الحكومات الذكية هي التي تعزز هذا النمط من التفكير والابتكاري ومثال ذلك ما قامت به حكومة مملكة البحرين من إطلاق مسابقة الابتكار الحكومي”فكرة” والتي تحولت إلى أرض خصبة لطرح الأفكار المبتكرة لتحقق أفضل الممارسات الحكومية وترتقي بمنظومات العمل ومخرجاتها.