أعلنت منظمة الصحة العالمية في الحادي عشر من مارس 2020 م أن فيروس كوفيد – 19″ وباء”، وأن العالم يواجه جائحة سريعة الانتشار، وبموجب ذلك دعت المنظمة كافة حكومات العالم لاتخاذ إجراءات لمواجهة تداعيات التفشي من النواحي الصحية حفاظًا على الأرواح، وعلى صعيد النواحي العملية للحفاظ على ديمومة الأعمال.
أُتخذت العديد من الإجراءات للتعامل مع الجائحة على مختلف الأصعدة، وكان للإجراءات الاحترازية الصحية -مثل تجنب الاختلاط البشري واضطرار كثير من الحكومات لاتخاذ قرار الإغلاق الكلي أو الجزئي- تأثيرات مباشرة على قطاع الأعمال، الأمر الذي حتم انتهاج أساليب عملية جديدة تعوّض عدم تواجد الموظفين في مكاتبهم ومواقع أعمالهم، مع ضمان استمرارية عملية الإنتاج وتقديم الخدمات، وعليه تم اللجوء إلى التطبيقات التقنية كحلولٍ لعقد الاجتماعات عن بعد ولضمان التواصل المؤسسي بين جميع الأفراد، وكذلك امتدت العملية لتسريع تحوّل الخدمات باتجاه “الرقمنة”.
هنا انتشر مصطلح “العمل عن بعد” واُعتبر الحل الأمثل لضمان استمرارية الأعمال والإنتاج بشكل آمن وبمعزل عن الاختلاط البشري بعيدًا عن مواقع العمل، وقد أطلق عليه الكثيرون مسمى “العمل من المنزل” على الرغم من أن جوهر العملية يتمثل بالعمل عن بعد بغض النظر عن مكان الشخص، إذ أن مفهوم العملية مرتبط بالتباعد الاجتماعي في الأساس، ولذلك لوحظ أن بعض القطاعات خصصت أفرادًا معينين للتواجد في المكاتب نظرًا للحاجة الماسة للوجود الفيزيائي لأداء مهمات مثل العمليات الإلكترونية المرتبطة بالشبكات وضمان عمل الخوادم الداخلية للأنظمة، والحال نفسه بالنسبة للموارد المالية والبشرية.
قد يظن البعض أن “العمل عن بعد” مفهوم جديد فرضته أزمة كوفيد -19، ولكنه قديم استجد البحث فيه مع تفاقم الجائحة، وعليه أصبح خيارًا مثاليًا بنيت عليه عديد من الأبحاث والدراسات التي تحاول الخلوص لنتيجةٍ تتمثل بأن هذه العمليات الإدارية القائمة على تطويع التقنية والاستفادة منها بأقصى حدودها هي “الخيار المستقبلي” للأعمال سواءً كان العالم يواجه أزمات أم لا، لكن الحقيقة تكشف بأن “العمل عن بعد” ممارسة إدارية موجودة منذ اختراع الهواتف المحمولة وتطوّر شبكات الاتصال، إذ تمكّن رجال الأعمال من إدارة ومتابعة نشاطاتهم الإدارية والتجارية في مؤسساتهم من خلال عمليات الاتصال، وهي العملية التي تطورت مع تطوّر أجهزة الاتصال السمعي وتحولها من الأجهزة الثابتة إلى المتنقلة التي بدأت بشكل مبسّط ثم تطوّرت على مراحل لتصل إلى الشكل الحالي من خلال عشرات أجهزة الاتصال أو الألواح الذكية التي تتضمن تطبيقات متنوعة بإمكانها ربط البشر ببعضهم البعض عبر عملية تواصل كانت في غالبها سابقًا اجتماعية وتحولت بسبب الأزمات إلى عمليات تواصل مهنية وعملية.
كظاهرة عرف العالم “العمل عن بعد” منذ سبعينيات القرن الماضي، وذلك مع طفرة العصر الرقمي، واعتبر بأن التواصل مع مقار العمل من خلال الاتصالات أو الحواسيب الآلية يعتبر عملًا عن بعد، طالما تضمنت الاتصالات توجيهات وتعليمات إدارية وقيادية تُحقق الأهداف من خلال قيادة فرق العمل.
أما كمصطلح، فتعددت التعريفات التي تشرح العمليات المرتبطة بظاهرة” العمل عن بعد”، وهنا نُعرّفها بشكل مبسّط بأنها:” نظام عمل مرن، يتجاوز حدود الزمان والمكان، بحيث يربط بين أفراد المؤسسة الواحدة باختلاف مستوياتهم الإدارية، عبر تطبيقات إلكترونية مبنية على تقنيات المعلومات والاتصالات تمكّنهم من القيام بكافة الأعمال دون ضرورة التواجد في مواقع العمل”.
هناك نوعان من العمل عن بعد؛ الأول يتمثّل بالعمل الكليّ، وهو يعني القيام بتأدية المهام بشكلٍ كامل خارج مقر العمل، أما النوع الآخر فهو العمل الجزئي، ويعني إمكانية تقسيم مهام العمل ما بين مكان العمل الرئيسي وخارجه وذلك وفق تقسيمات زمنية أو بناءً على احتياجات العمل المراد إنجازه والمرتبط بعوامل وأدوات لا تتوفر إلا في مقر العمل.
الإيجابيات عديدة للعمل عن بعد، وهنا سنذكر أبرزها، إذ تبدأ مع إمكانية التغلّب على قيود المكان والزمان، مرورًا بسهولة جمع جميع أطراف العمل عبر صناعة بيئة رقمية يمكن عقدها في أي وقت، إضافة للمرونة التي تمنحها للأفراد؛ ما يعني خلق أريحية لهم للعمل مع السيطرة بشكل أكبر على الوقت الأمر الذي ينعكس إيجابا على صحتهم النفسية والبدنية، إذ العملية تكون مرهونة أكبر بـ”الإنجاز “وليس” عدد ساعات العمل”، وهو ما تبين بأنه يمنح الفرد القدرة على تقسيم حياته ووقته ما بين العمل وبين هواياته وممارسة الرياضة وغيرها. إضافة إلى ذلك فإن العملية توفر على أصحاب الأعمال وحتى المؤسسات التكاليف التشغيلية المرتبطة بإدارة المكاتب، وفي بعض الحالات توفر عليهم علاوات التنقل والعمل الإضافي ومصروفات الاجتماعات الخارجية التي يحتاج بعضها للسفر، دون نسيان العامل الأهم من انتهاج هذا الأسلوب والمعنيّ بحماية الموظفين خلال الأزمات والظروف الصعبة مثلما شهدنا مع وباء كوفيد -19، وبالتالي الحفاظ على كينونة مؤسسات العمل وضمان استمرارية تقديم الخدمات والإنتاج.
بعض جهات العمل استفادت من تطبيق هذه الآلية في تعديل هياكلها التنظيمية، وتحولت إلى الرقمنة في عملياتها وألغت تمامًا المعاملات الورقية، وبناءً عليها تطوّرت كثير من الأنظمة الإلكترونية لتشمل إنجاز المعاملات وتقديم الخدمات الأمر الذي وفر على العملاء الوقت والجهد والأساليب التقليدية في العمل، ومنح الموظفين من جانب آخر القدرة على تسيير كافة العمليات بغض النظر عن مكانهم ودون الارتباط بزمن محدد.
كما أن كثيرا من المؤسسات استفادت من سياسة العمل عن بعد في تطوير كوادرها من خلال زيادة معدلات التدريب والتطوير وتحسين المهارات عبر إدخالهم في دورات متنوّعة تعقد بأسلوب الاجتماعات المرئية.
ورغم المخاوف التي برزت بشأن انتهاج هذا الأسلوب وتأثيره على الانتاجية، إلا أن بعض الدراسات العالمية بينت أنه في ظل ظروف الأزمات فإن أسلوب “العمل عن بعد” أثبت فاعليته من خلال زيادة الإنتاجية، إذ يكشف استطلاع أجرته جامعة “ستانفورد” الأمريكية أن الموظفين الذين يعملون عن بعد كانوا أكثر إنتاجية من الموظفين الذين يعملون من مكاتب الشركة بنسبة 14%، في حين أكد 77% من موظفين استهدفتهم دراسة أخرى أنهم أكثر انتاجية بعيدًا عن المكاتب لأن هذه الآلية منحتهم حرية التحكم في الوقت وقلّلت نسبة تغيبهم عن العمل عبر وجود أجهزتهم أمامهم في جميع الأوقات، وهذا ما يقود للتفكير في نسبة سعادة الموظف في عمله، وهل ساهمت آلية العمل عن بعد في رفع نسبتها لديهم؟!
ولضمان التطبيق الأمثل لهذه الآلية، لابد من التخطيط الصحيح لعملية التنفيذ، وذلك من خلال وضع خطة لكل المهام الوظيفية والطلب من الأفراد أنفسهم إعداد خطة عملهم وتقديمها للمسؤول، وأن تحرص هذه الخطة على تحديد “نسبة الإنجاز” كمعيار للتقييم، مع مراعاة أهمية الالتزام بإدارة الوقت، بحيث لا يكون هناك إخلال بتوفر الموظف في وقت الحاجة له لإتمام عمل روتيني أو طارئ على حد سواء. أيضا لابد من تعزيز مهارات الاتصال والتواصل الفعال بين الزملاء وفرق العمل من خلال التطبيقات الإلكترونية المعتمدة، إذ أن خلق بيئة عمل جماعية افتراضية إيجابية داعمة للأداء والإنتاجية والابتكار هي كلمة السر في نجاح العمل عن بعد بالنسبة للمؤسسة، وطبعًا للتطبيق لابد من الاستعداد التام بكافة الوسائل التقنية اللازمة لتنفيذ العمليات وتقديم الخدمات وعقد الاجتماعات مثل أجهزة الكمبيوتر المحمول والهواتف والألواح الذكية، وما تحتاجه من شبكات اتصال إلكترونية ممكنة للتواصل فيما بينها.
كقائد للمنظومة تعتمد آلية العمل عن بعد عليه بشكل كبير لتحقق النجاح، فعليه تقع مسئولية تعديل التشريعات من قوانين وقرارات وسياسات وغيرها لتدعم أسلوب العمل الجديد. إضافة إلى ذلك يعتبر دوره الاشرافي والتوجيهي مهم جدا لضمان سير العمل بشكل صحيح، وهنا يُنصح بإدارة الفريق بشكل عائلي وديّ يبتعد عن الرسميات الجامدة، وهو أمر من شأنه تعزيز الثقة ويقوي العمل الجماعي، مع أهمية التعبير عن التقدير الدائم للموظفين الذين ينجزون ويحافظون على تنامي نسب الإنجاز. وفي شأن التنفيذ العملي مهم جدا أن يقسم القائد المهام بشكل منصف يراعي فيه قدرات كل مجموعة أو فرد، وهنا سينجح في عدم إرهاق كاهل بعض الموظفين بمهام كثيرة ومتعددة، بل سيضمن تركيز الجميع وإنجازهم للمطلوب في الوقت المحدد حينما يتم توزيع المهام بدقة تراعي القدرات والجداول الزمنية لتحقيق الأهداف المؤسسية.
ورغم التأكيد بأن هذا الأسلوب يمثل نمط العمل المستقبلي لا محالة، إلا أن البعض يُحذّر من السلبيات فيه، إذ عدم الانتباه لها قد يتسبب في ضرر لكثير من المؤسسات عبر تراجع نسبة الأداء والإنجاز، وهو الأمر الذي يجعل بعض المسئولين في المؤسسات يترددون قبل تطبيق هذه السياسة، خاصة وأن عملية المتابعة والتقييم تتطلب استمرارية دائمة قد تكون بشكل يومي لضمان تحقيق الموظفين للإنجاز، إذ آلية العمل عن بعد تواجه تحديًا مستمر فيما يخص إلتزام الموظفين وعدم التأثر بمصادر الإلهاء العديدة التي قد يجدها الموظف أمامه في منزله، أو محيطه الاجتماعي مثل التكاسل والتأجيل والقيام بأمور بديلة تدخل في إطار الترفيه، أو الالتهاء بما يحصل في المنزل من قبل أفراد الأسرة، أو عدم إنجاز المطلوب بجودة عالية تتطلب تركيزًا في المخرجات. كما أن البعض يتخوف من صعوبة تجهيز بيئة العمل من خلال توافر الأجهزة وبرامج الدعم الفني، واختلاف درجة الإتقان لها بين الموظفين أنفسهم، ناهيك عن عدم مرونة بعض السياسات والإجراءات الإدارية أو عمليات الانتاج لتتلائم مع التحول الرقمي وأساليب تنفيذه عن بعد.
خلاصة القول بأن “الحاجة هي أم الاختراع” وانتهاج الأساليب الجديدة لضمان ديمومة الأعمال ومخرجاتها كأسلوب “العمل عن بعد” أثبتت بأن الحلول المستقبلية ستكون مبتكرة لا محالة عبر استفادة قصوى من التكنولوجيا المتطورة، وهو الأمر الذي دفع كثيرًا من الباحثين لمحاولة حصر وتوقع ملامح بيئة العمل المستقبلية، وما هي الوظائف التي يمكن أن تختفي وتلك التي ستستحدث، بحيث تتشارك في السمات التي برزت خلال إدارة الأعمال في ظل جائحة كوفيد -19، مثل التحوّل للمكاتب الافتراضية وكذلك الاجتماعات، ومرونة بيئات العمل وتنوعها، وتقنين الهياكل التنظيمية، ودخول مفاهيم إدارية جديدة معنية بالقيادة عن بعد مع زيادة الوعي بشأن أمن المعلومات وحماية شبكات العمل من الاستهداف أو الاختراق، ناهيك عن تطور تقنيات جديدة كليا مثل “الكون الفوقي Metaverse” والتي يعول عليها أن تكون المنافس الأكبر لشبكات الإنترنت.
بعض الدراسات أشارت لوجود وظائف حتى ما قبل جائحة كوفيد -19 كانت تنفذ أعمالها عن بعد دون الحاجة إلى المكاتب، ومثال ذلك على سبيل الذكر لا الحصر الوظائف في عمليات البرمجة وصناعة التطبيقات الإلكترونية، وكذلك التصاميم المتقدمة في “الجرافيكس” و”الانفوجرافيكس” والمخططات الهندسية وحتى صناعة المؤثرات السينمائية. إضافة إلى ذلك وظائف خدمة العملاء المختلفة والتي كثير منها يعتمد على الاتصالات الممكن استقبالها في أي مكان أو توظيف تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي للقيام بالرد على استفسارات العملاء أو حل مشكلاتهم. أيضًا مجالات التدريس والمحاضرات والكتابة والصحافة والترجمة وإدخال البيانات وصناعة المحتوى للمنصات الرقمية هي تتم حاليًا دون الحاجة للارتباط بالمكاتب.
وهنا يبرز السؤال بشأن الوظائف الأخرى التي يمكن أن نراها مستقبلًا تُنفّذ عن بعد دون الحاجة للتواجد في المكاتب، إذ عبر تحديدها وتصنيفها واختبار إمكانية تطوير وترقية مخرجاتها يمكن الحكم على فاعلية آلية” العمل عن بعد “بواقعية، وهل كانت مجرد حل مؤقت للتعامل مع أزمات وأوضاع غير عادية، أم أنها أصبحت واقعنا الجديد لنشكل لنا مستقبلًا جديدا؟!