تتنوع أنماط الشخصيات في مواقع العمل بالضرورة، وهذا أمر طبيعي، لكن الإشكالية التي تواجه المسئولين خصوصا وبقية الموظفين عموما تكون حينما تضم مواقع العمل بعض الشخصيات التي تصنف على أنها “شخصيات صعبة”، وهي شخصيات يُصعب التعامل معها إداريا وحتى إجتماعيا بسبب سلوكياتهم وردات الفعل الصادرة عنهم.
تُعرف الشخصية الصعبة على أنها: “شخصية معقدة في تعاملاتها مع الآخرين، وتمتلك سمات تكون منفرة مثل العصبية والانطوائية والنرجسية وغيرها، وهو ما يجعل التعامل معها أمر بالغ في الصعوبة، ووجودها في أي محيط له تأثيرات سلبية واضحة”.
لكن مواقع العمل تفرض على المسئولين المعنيين بإداراتها وصناعة القرار فيها عملية التفاعل مع جميع الموظفين، ودفعهم باتجاه الإنتاجية والتطور، إضافة إلى تعزيز العمل الجماعي، وعليه وجود شخصيات “صعبة” تفرض تحديات كبيرة على المسئولين، لأن المطلوب منهم إصلاح بيئات العمل، وتحسين سلوكيات الموظفين واستخراج أفضل ما لديهم وتوجيهها لتحقيق الأهداف، وحل مشاكل الأفراد هي ضمن عملية الإصلاح هذه.
وجود شخصيات صعبة له تأثيراته السلبية على مواقع العمل، فناهيك عن صعوبة التعامل معها، فإن العملية تسبب إرهاقا للمسئول ومزيدا من الجهود التي تبتعد عن العمليات الأساسية ويأخذ من وقتها، حيث أن ترك هذه المسألة أمر غير صحي على المستوى القيادي، لأن التعامل معها وحلها يحفظ الاستقرار والتوازن في موقع العمل.
البعض قد يظن بأن الحل تجاهل هذه الشخصيات الصعبة وغض الطرف عنهم، لكنه اعتقاد خاطئ نظرا لآثاره الجسيمة على المؤسسة وعلى مكونات بيئة العمل، إذ مع الوقت ستخسر جهود هذه الشخصيات لأنها ستتحول إلى مزيد من السلبية بجلوسها في المؤسسة كعنصر غير فاعل، وهنا ستكون فرصة إصلاحهم قد ضاعت تماما. إضافة إلى ذلك فإن التغاضي عن هذه الظاهر تعني السماح بانتشار آثار سلبية في موقع العمل عبر خلق بيئة إدارية غير منصفة في التعامل مع الأفراد، إذ تنحرف من التعامل القائم على الإنتاجية إلى التعامل بناء على السلوكيات والأنماط البشرية بأسلوب الهروب من حادّي الطباع والتركيز على الأشخاص السلسين في التعامل.
لذلك يأتي المسئول صاحب القرار على رأس هرم المسئولية في التعامل مع هذه الأنماط الصعبة بهدف إصلاحهم وتوجيههم في الطريق الصحيح، وهو ضمن الدور القيادي للمسئول عبر استخدام أدوات التوجيه والتشجيع والتدريب والتفويض بحسب الآليات التي يرى لها إمكانية النجاح في تعديل السلوكيات.
هنا من المهم أن يتذكر المسئول بأن مهمته ليست تغيير الشخصيات، بل في نجاح تغيير السلوكيات الحادة وإبدالها بأخرى مثالية تحقق الصالح الشخصي والعام للموظف والمنظومة. وعليه فإن المهم هو الوصول للنتيجة التي تخدم جميع الأطراف، وعدم تصور الوضع على أنه مواجهة لابد وأن تسفر عن منتصر من أحد الطرفين في النهاية.
هنالك تصنيفات عديدة للشخصيات الصعبة، لكن أشهرها يمكن حصره في أربعة أنواع يسهل رصد سماتها بشكل واضح:
أولا: الشخصيات العدوانية: وتتسم بانفعالاتها وعصبيتها الحادة التي قد تصل للغضب الدائم أو تتطور لاستخدام العنف، وقد تتمثل أيضا بطبع تهكمي ورغبة دائمة في التسلط على الآخرين.
ثانيا: شخصيات مثيرة للغضب: وهي التي تصدر المشاعر السلبية من خلال تذمرها الدائم وتهميشها للآخرين والتقليل من شأنهم، إضافة لسمات التكبر واللامبالاة.
ثالثا: شخصيات مضطربة نفسيا: وتبرز فيها سمات المزاجية والاكتئاب والملل والضجر، وتجد فيها حب الفضول والتدخل في شئون الآخرين.
رابعا: شخصيات مضطربة أخلاقيا: وهؤلاء هم من يلعبون دور الوشاة والمنافقين ومفتعلي المشاكل عبر الكذب وقد يصلون لممارسات منبوذة أخلاقيا بحق الآخرين.
مع كل هذه الصفات السلبية والتي بعضها يبدو من الصعوبة بمكان أن يتم محوه أو تغييره: هل يمكن التعامل بأساليب تغيّر حال الشخصية الصعبة إلى حال مغاير؟! هنا يجمع كثير من علماء النفس وخبراء الإدارة على أن مفاتيح التعامل مع هذه النوعية يكمن في عدة أمور، كالآتي:
– أولا يجب فهم رغبات هذه الشريحة وتطلعاتها حتى يمكن فهم مسببات المشكلة.
– لا يجب افتراض سوء النية فيما يصدر عنهم من سلوكيات، إذ يجب ربط ردات الفعل بالأفعال التي حركتها ودفعتها لإظهار هذه السلوكيات.
– من الضروري بناء هامش كبير من الثقة معهم، لأن النجاح في ذلك يحولك من خصم إلى صديق يحظى بالثقة ويضعك في موضع المرشد الإداري والنفسي، إذ حينما تثق بك الشخصية الصعبة فإنك تكون قد قطعت نصف الطريق باتجاه تغيير سلوكياتها للأفضل.
– لابد وأن تكون شخصية مرنة وسهلة التعامل حتى تتمكن من حل المشكلات، إذ لا يمكن للشخصية الصعبة أن تصلح شخصية صعبة أخرى، لكن في نفس الوقت لا يجب أن تكون ضعيفا أمامهم منعا لاحتمالية زيادة شراستهم أو استغلالهم لهذا الهامش المرن.
– لابد من كسب احترامهم، لأن الشخصيات الصعبة لا تحب النصيحة المباشرة للتغيير، بالتالي حينما يحسون باحترام الشخص الآخر فإن نسبة التقبل تكون عالية جدا، خاصة وأن طبيعة البشر تفرض القلق بشأن كل ما هو جديد، وتحرض النفس لا إراديا على مقاومة التغيير توجسا من المجهول.
– أهمية إخضاع هذه الشخصيات الصعبة لتجارب عملية من خلالها تُمنح لهم المسئولية بهدف أن يصنعوا التغيير، إذ إحساس هذه الشخصيات بالأهمية في مواقع العمل وأن إنجازهم سيحدث فارقا واضحا ومؤثرا من شأنه أن يغير في سلوكياتهم من السلب إلى الإيجاب.
– كما من المهم أيضا كسر الحواجز التي تفصلهم مع الآخرين، وذلك من خلال إدماجهم في فرق عمل تقوم على الجماعية في الأداء وتبني الثقة بين أفراد الفريق الواحد.
– كما أن لأسلوب الجزرة من محاسن لإعادة بناء الثقة، فإن أسلوب العصى متمثلا في استخدام التشريعات والعقوبات المقررة فيها، قد يكون مهما كذلك خصوصا في حال تطور الوضع إلى أضرار متعدية لأشخاص أو ممتلكات أو حقوق.
علماء النفس يحرصون دائما بشأن التعامل مع الشخصيات الصعبة ألا تتحول الأساليب إلى مواجهات تقود إلى شجار بدلا من الخلوص لنتيجة إيجابية، إذ انفلات زمام الأمور وفشل عمليات الاحتواء والمعالجة ستؤدي إلى تفاقم الوضع وتصبح المشكلة بالتالي أكثر تعقيدا.
وفي هذا الجانب وضعت المعالجة النفسية البروفيسورة “باربارا جي ماركواي” 16 تكتيكا للتعامل مع هذه الشخصيات، وضعتها بناء على ما أثبتته من فعالية في تحقيق النتائج مع هذا النوع من الشخصيات، وهي كالتالي:
1- هذه الشخصيات تحب من يستمع لهم، وعليه الاستماع والانتباه لما يقولونه يخلق أرضية للتفاهم.
2- حتى تضمن استمرار النقاش دون تحوله إلى شجار لابد من ضبط الأعصاب والهدوء، فالمعالج عليه ترك الانفعالات للحالة التي يعالجها فقط.
3- قد تكون هناك جوانب خفية هي ما تسبب المشكلات لدى الشخصية الصعبة، بالتالي لا تحكم عليه مسبقا.
4- إظهار الاحترام والتقدير يخلق الثقة، بالتالي يدفع الشخص للحديث بأريحية أكثر.
5- افتح له المجال واسعا للتعبير عما بداخله والتنفيس عن أي أمر يزعجه.
6- اطلب المزيد من الشرح عند أية نقاط غامضة أو تحتاج لإيضاح، وتجنب إدعاء الفهم قبل إنهاء كلامه، لأن ذلك سيقلل من مدى اهتمامك لمشكلته من وجهة نظره.
7- تجنب أية ردات فعل تخلق لديه انطباعا بالاستهزاء أو الاستفزاز من قبلك، لذلك ينصح بعدم الضحك والابتسام غير واضحي الأسباب خلال جلسات الحديث.
8- خلال مرور الشخصية العصبة بنوبة غضب، لا تحاول مناقشته أو إقناعه بخلاف فكرته، بل امنحه المساحة ليذهب عنه الغضب.
9- عند زوال نوبة الغضب، حاول بشكل مبسط فهم مسببات هذا الغضب، وهل هو بحاجة ماسة لأن يغضب؟
10- تجنب الأساليب الدفاعية في الرد على ما يقوله والتي قد تصل لمستوى الكلام القوي أو الجارح أو الإدعاءات، بل حاول طلب المزيد من الإيضاح.
11- لا تصب الوقود على النار، وذلك عبر تجنب الرد على الغضب بغضب مماثل.
12- قد تحتاج أحيانا للاعتذار عن بعض المواقف السابقة أو وعود بإصلاح أوضاع تركت تأثيرات سلبية على الموظف ودفعته للتحول إلى ما هو عليه.
13- لا ينصح باللمس المباشر، وعليه مهم ترك مسافة كافية تفصلك عنه.
14- عندما تنفعل الشخصية العصبية لابد من محاولات لضبط هذه الانفعالات بهدوء.
15- المرونة مطلوبة دائما في التفاعل مع أقوال وأفعال الشخصيات الصعبة طالما أنها غير ذات ضرر مباشر يخرق أية قوانين أو لوائح إدارية.
16- مهم جدا الاستعانة بآراء خبراء ومختصين في الأنماط الشخصية أو علم النفس عبر مشاركتهم للحالة المراد تحسين سلوكياتها.
بعض المسئولين يفضل استخدام أساليب الإرشاد والتوجيه الإدارية للتعامل مع الشخصيات الصعبة، ومن ضمن أشهر الأساليب تقنية GROW وهي إحدى التقنيات الإدارية الحديثة المبنية على أسئلة توضح إجاباتها مسارات المعالجة الفضلى للشخص عبر تحديد قيمه وأهدافه وسبل تحقيقها والتي يمكن من خلالها من تحسين سلوكياته في حال إلتزامه بمستوى الإنجاز المطلوب.
تم تقديم هذا النموذج للمرة الأولى في عام 1992 من قبل البريطاني السير جون ويتمور في كتابه “الكوتشينج من أجل الأداء”، حيث استخدم هذا النموذج في البادية كأساس لتعزيز الأداء الوظيفي من خلال جلسات الإرشاد، لكن تم توظيفه بشكل أكثر شمولية فيما بعد كوسيلة لتحقيق الأهداف في مجالات متعددة.
تقوم التقنية على وضع إجابات للأسئلة الأربعة التي يتشكل منها مصطلح GROW، فأولا يجب تحديد وجهة الإنطلاق، أي الهدف Goal، بعدها يتوجب تحديد الموقع الحالي الحقيقي الذي يقف فيه الشخص Reality، بعدها يتم تحديد الخيارات والوسائل Options، وأخيرا بيان إرادة الموظف واتجاهات العمل وكيفية الالتزام بها Way.
الخلاصة تكمن في وجود عديد من أساليب التعامل الممكنة مع الشخصيات الصعبة في مواقع العمل، والتي يمكن توظيفها حتى في بيئات مختلفة كالمنزل والمؤسسات المدنية والأندية وغيرها في تحسين سلوكيات الأفراد ودفعهم باتجاه الإيجابية، لكن العامل الأهم في كل هذا يتمثل في عدم اليأس والمحاولة المستمرة في معالجة هذه الأنماط وتوجيهها في الاتجاه الصحيح، إذ الاستسلام سيقود لفشل إنقاذ العنصر أو العناصر التي تسبب سلوكياتها أزمة للمنظومة، بالتالي المخاطرة بأن يتعدى التأثير مستوى الضرر الشخصي ويصل لضرر عام.
تظل عملية إصلاح السلوكيات البشرية والتعامل مع الشخصيات الصعبة وإتقان طرائق التأثير من خلال الإرشاد والتقويم عملية احترافية تتطلب مسئولين يتقنون فنون التعامل مع البشر، متمرسون في استراتيجيات التغيير والإصلاح.