يقول الله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل “وإذا حكمتم بين الناس فاحكموا بالعدل”[١]، وقيل في المثل الشهير “العدل أساس الحكم”، في حين اعتبرت المدرسة العالمية[٢] في الإدارة أن “العدالة” من أهم مبادئ العمل الإداري، بينما ربطت المدرسة السلوكية[٣] النجاح بالتوازن والتبادل العادل بين الفرد ومؤسسته.
العدالة الإدارية تعتبر من أهم سمات المنظومة الإدارية الناجحة، ويمكن تعريفها بأنها “ممارسة إيجابية تشكل أساسا للإدارة القويمة عبر تعزيزها لشعور الموظفين والعملاء بعدالة الإجراءات والتعاملات السوية فيما بينهم على أسس من المصداقية والثقة، وتحرص على انتفاء الشعور بالظلم والتمييز الإداري وإجحاف الجهود عبر التوازن بين ما يقدم من خدمة وعطاء وإنجاز وبين التقدير، وعبر التطبيق الصحيح للسياسات والإجراءات دون تمييز أو محاباة”.[٤]
من المهم جدا ترسيخ العدالة الإدارية كأساس للعمل، فآثارها القوية تنعكس على تعزيز الثقة في النظام الإداري، بالأخص الموارد البشرية، إذ تسود قناعة لدى الموظف بوجود الإنصاف والعدالة في كافة الظروف، وهو ما يؤثر إيجابا على مشاعره النفسية ويخلق لديه دافعية باتجاه الإنجاز، خاصة وأن المقارنات بين الموظفين سلوك موجود وإن كان منبوذ، بالتالي خلق نظرة التساوي فيما بينهم أمر مهم جدا، لأنها تخلق حالة رضا عام، وتؤكد على معادلة استحقاق النجاح والتقدير لمن يستحقه ويكون جديرا به. كما أنها تخلق شعورا لدى الموظف بأنه جزء لا يتجزأ من المؤسسة، وأن الأخيرة تهتم فعليا برأس المال البشري فهو لا يقل أهمية عن رأس المال المالي، ونتيجة لذلك نجد توجيها إيجابيا للسلوك البشري نحو أفضل الممارسات بسبب إشاعة جو من الإحساس بالأمان وإثبات سيادة العدالة بما يعزز الأداء ويرفع نسبة الولاء المؤسسي.
كما من المهم أن تُطبق مبادئ العدالة الإدارية على نتائج العمل الموجه للعملاء، إذ من المهم جدا أن يدرك العملاء وجود معاملة عادلة وخدمة متساوية تقدم للجميع على حد سواء، وهذه العدالة الموجهة للعملاء لا يمكن تحقيقها إلا من خلال بيئة عمل تدار فيها العمليات وجهود الإنتاج بعدالة شاملة لكل الجوانب.
نظرية العدالة[٥] التي ظهرت في العام ١٩٦٣ على يد عالم النفس السلوكي ستيسي آدمز اعتبرت العدالة دافعا رئيسا لدى الموظفين، فهم يطمحون لمعاملة عادلة تقوم على معيار المقارنة المتوازنة، بحيث تتوازن مدخلات الفرد مع مخرجاته التي يتحصل عليها كتقدير أو مكافأة.
هناك تصنيفات عديدة لممارسات العدالة الإدارية، أبرزهما تصنيفان، الأول “العدالة الهيكلية” وهي التي تعزز إحساس الفرد بعدالة القرارات وعدم التحيز في السياسات بناء على هيكلية المهام والتكليفات، في حين التصنيف الثاني “عدالة المعاملة” وله صداه الكبير كونه يتشعب إلى عدة جوانب أبرزها: عدالة توزيع التقدير المرتبطة بتوزيع المكافآت والموارد على الموظفين، والعدالة الإجرائية التي تحقق إدراك الموظفين بعدالة العمليات والآليات المستخدمة لصناعة القرارات داخل المؤسسة، بالإضافة لعدالة التعاملات أو العدالة التفاعلية التي تركز على المعاملة التي يتلقاها الموظفين عبر تطبيق الإجراءات التنظيمية بما يشكل تصورهم عن المعاملة التي يتلقونها بشكل شخصي أو جماعي.
لغياب العدالة أو اختلال ميزانها الإداري تداعيات خطيرة جدا، فهي تحول مواقع العمل لأوساط تسود فيها مشاعر المظلومية وانعدام الثقة في النظام الإداري، وهو ما يؤثر على التنمية المستدامة والإنتاجية ويقود لتدهور الخدمات. كما تقود هذه الظاهرة لهروب الموظفين والكفاءات بسبب تحول مواقع العمل لبيئات طاردة، إذ ستسود لديهم قناعة بأن التعاملات التي يتلقونها مبنية على المحسوبية والأهواء، في ظل تعزيز فرص انتشار اللوبيات، وهو ما يقود بالضرورة لاحتمالية تفشي السمعة السيئة لمواقع العمل بالضرورة على المستويين الداخلي والخارجي، ويمنح فرصا لانتشار ظواهر قد تؤدي لحالات فساد إداري وحتى مالي. وفي المحصلة تكون مواقع العمل هذه في حاجة ملحة لعمليات تغيير ومعالجات سريعة لإيقاف الخلل وإنقاذ الطاقات البشرية والكفاءات وإعادة المسارات لطرقها الصحيحة لمنع الفشل في تحقيق الأهداف.
غياب العدالة الإدارية يفرض عمليات تقويم لازمة، لأن استمرارها كظاهرة تقود لتداعيات خطيرة وخسائر جسيمة، وعليه تتجه بعض الدول لمحاسبة المسئولين المخلين بتحقيق العدالة، في حين تُفعِّل بعض الدول دور لجان التظلمات واستقبال شكاوى الموظفين بشأن الحالات التي تُثبت اختلال ميزان العدالة، بينما أسست بعض الدول محاكم إدارية تنظر في حالات هي نتيجة لغياب العدالة في مواقع العمل.
المسئولون وأصحاب القرار في مواقع العمل عليهم مسئولية تحقيق العدالة الإدارية عبر تطبيقات إدارية فعالة ومؤثرة تنجح في تحويل الأوساط العملية إلى أوساط “آمنة” و”حافظة للحقوق” و”منصفة” للجميع، إذ حينما تتخذ الإدارة قراراتها وفق أسس موضوعية عادلة فإنها ستتوافق مع تطلعات وآمال الموظفين، وستثبت لهم بأن العدالة ليست شعارات غير مطبقة أو غايات وطموحات غير محققة، بل هي أفعال موجودة وممارسات مرصودة.
من المهم جدا ضرب أمثلة إدارية لتحقيق العدالة بما يعزز ثقة الموظفين، بحيث تكون مواقف لها الوقع الإيجابي والتأثير المحفز للموظفين، كاعتماد الشفافية والمصارحة كثقافة أساسية، وترسيخ ثقافة التقدير والشكر، مع ضرورة أن تكون عمليات التقويم مشجعة وتساعد الموظفين على التطور والإنتاجية وضرورة عدم تغليفها بالسلبية واللوم والانتقاد حتى لا تخلق الإحباط، وهنا لابد من صناعة مواقف فيها ممارسات فضلى تعكس تطبيق العدالة الإدارية، وتكون أساسا للبناء عليه، بحيث يدرك الموظفون بأن بيئة عملهم تضمن لهم حقوقهم وتنصفهم وتوازن بين ذلك وواجباتهم ومسئولياتهم.
أخيرا لابد من إدراك أهمية قيام المسئولين بالتأسيس لثقافة إيجابية في علاقات التواصل مع الموظفين بما يصنع مساحات أكبر للتعبير عن الآراء وتقديم الاقتراحات، وذلك عبر اعتماد سياسة “الباب المفتوح” من قبل أصحاب القرار، واستماعهم لمن لديهم شكاوى وانتقادات وملاحظات ليتم إيجاد حلول لها قبل أن تتفاقم أية أمور، وهنا سيجد المسئولون فرصة لمعرفة نوعية الموظفين الممكن أن يشكلوا بطانة صالحة حولهم تساعدهم وتساندهم في تحقيق العدالة الإدارية لتشمل الجميع.