حينما يُلاحظ وجود سعي لدى أي مؤسسة أو منظومة لتحسين مستويات أدائها، وإحداث تغيير في سلوكها العملي ونظمها الإدارية وتطوير طاقاتها البشرية بما يحقق “نقلات نوعية” في رفع مستوى الإنتاجية وجودة الخدمات ويمكّنها من مواكبة المتغيرات العالمية المتسارعة بشكل يعود عليها بالفائدة سواء في شأن تعزيز ثقة الشريحة المستهدفة بها، أو عبر تحقيق العوائد المالية، فإن هذه المؤشرات تبين وجود عمليات “تطوير إداري” في هذه الكيانات.
يمكن تعريف عملية “التطوير الإداري” على أنها: “عملية منظمة تتم عبر أساليب وطرق تطبق على المؤسسة بأكملها أو قطاعات أو إدارات معينة، تدار من قبل المسئولين وبآلية ديناميكية مستمرة، تهدف لإحداث التغيير نحو الأفضل عبر تطوير النظام الإداري وتغيير الاتجاهات العملية وإصلاح بيئات العمل لتكون ذات تأثير إيجابي على السلوكيات الإدارية للموظفين، وتضمن هذه العملية وجود العناصر الكفوءة في مواقعها المناسبة، وتعمل على تحسين أدائهم وتمنحهم فرص التطور الوظيفي بما يرفع نسبة المخرجات ويضمن جودتها العالية بشكل يواكب المتغيرات المحيطة ويحقق تطلعات الشريحة المستهدفة”.
هنا لابد من إدراك الغاية الحقيقية من عملية التطوير الإداري في العمل الحكومي وعمل المؤسسات الخاصة، وهي الوصول إلى خدمة المواطنين والعملاء وتحقيق مصالحهما بالدرجة الأولى، وأن هذه المسئولية لا تقع فقط على رأس الهرم أو صاحب القرار، بل هي مسئولية مشتركة من قبل جميع المسئولين باختلاف درجاتهم ومواقعهم ممن يعنيهم الأمر بشأن العمليات والمهام وتحقيق الأهداف الموجهة للجمهور المستهدف.
عمليات “التطوير الإداري” باتت ممارسات ملحة ولازمة بسبب المتغيرات المتسارعة، ومهم أن تتم بشكل دوري لتطويع أساليب العمل والطاقات البشرية لتتواءم مع هذه المتغيرات، مثال ذلك أزمة “كورونا” وما فرضته من تغيير في سلوكيات وأنماط العمل الإداري وتأثيرها الكبير على مخرجاته، بالتالي المواكبة والتأقلم السريع فرضا تطويرا إداريا مستمرا للحفاظ على الحيوية والفاعلية بداخل المؤسسة والمنظومة، وليساعد على تنمية قدرة الابتكار ويحفز الرغبة الدائمة للتطور والتحسين.
يهدف التطوير الإداري إلى مواكبة أحدث النماذج في البناء التنظيمي لمختلف العمليات لتحسين أداء المؤسسة، وذلك عبر توضيح الأدوار ورفع كفاءة الأداء والارتقاء به لينعكس على تقوية المخرجات وتعزيز الإنتاجية، كما يركز في ذات الوقت على إعادة تصميم الهياكل لتكون قادرة على مواكبة متطلبات التطوير من خلال تميزها بوضوح الأدوار وخلقها نظاما للتعاقب الإداري الصحيح والتوظيف الأمثل لقدرات الموظفين بما يعزز قدرتهم على التعامل مع المتغيرات الداخلية والخارجية، إضافة إلى تسهيل تقديم الخدمات بشكل مطور وسريع ومتقن. أيضا تركز هذه العملية على تطوير التشريعات والاستراتيجيات والسياسات والإجراءات بما يضمن النمو المستمر للمؤسسة، بموازاة تطوير الموظفين من خلال رفع الوعي الإداري لديهم أولا، ورفع مستويات أدائهم باعتبارهم أحد أهم الأصول في المؤسسة، وهذا يتأتى عبر التدريب المستمر وتطويرهم وإعدادهم للارتقاء في مراكز وظيفية أعلى.
هناك مرتكزات هامة لعملية التطوير الإداري، أهمها أن تسير عملياته بنسق متجانس مع السياسات العليا، مع أهمية وجود التخطيط السليم، والاستخدام الأمثل للموارد المتاحة، وتوظيف التكنولوجيا الحديثة، وإيجاد الكادر البشري المؤهل وتعزيز التراكم المعرفي لدى القيادات، مع ضرورة وضع أدلة تنظيمية جديدة تفصّل السياسات والإجراءات وتحدد الواجبات والمسئوليات، والأخيرة تتم عبر مراجعة وتطوير اللوائح والتشريعات.
مهم أيضا تعزيز آليات العمل الجماعي المبني على التكامل في التفكير والأداء، ووضع خطط لتطوير الموظفين بل مشاركتهم التخطيط للتطوير الإداري، وربط التقدير والمكافئات بالابتكار والإنتاجية والتميز، مع ضرورة اعتماد التقويم الدائم كأساس لتحسين بيئة العمل وزيادة فرص التطوير، إذ الأخيرة كلما شعر الموظفون المجتهدون بوجودها وأنها تفتح لهم أبواب التقدم والتطوير الشخصي فإن فكرة مغادرة موقع العمل لموقع آخر لن تكون حاضرة. كما لابد وأن تشمل عملية التطوير الإداري كافة السياسات واللوائح الإجرائية، وكذلك كافة الموظفين والعملاء باختلاف مستوياتهم، وأن تدرك أهمية إشراك الجميع في عملية التطوير هذه، فهم المحرك الرئيسي للاستمرار فيها كأداة هامة لتحسين بيئات العمل وتقدمها.
ولنجاح عمليات التطوير الإداري، هناك أساسيات مطلوبة، أولها الرغبة في إحداث التغيير من قبل الجهات العليا، وثانيا تناسب العنصر البشري الموجود مع عمليات التطوير، وثالثا ارتكازها على قوانين وأنظمة تكون مناسبة للعمليات وتبسط إجراءاتها، أما رابعا فضرورة تنفيذ العملية وفق خطة زمنية وفق مراحل تتضمن عمليات قياس وتقويم للتطبيقات، وأخيرا من المهم جدا استخدام التقنيات الحديثة لتسهيل أداء العمليات.
البدء في تنفيذ عملية التطوير الإداري يكون عبر تحديد الحاجة للقيام بهذا التغيير، وهو أمر توضحه عملية تحديد الأخطاء السابقة وأوجه الخلل التي مازالت مستمرة، وهنا لابد من حصر التداعيات التي تسببت بها هذه الأخطاء، وهذا ما سينتج عنه اكتشاف مواطن الضعف ونقاط القوة والفرص والمخاطر (SWOT)، وبناء عليها يمكن وضع حلول لمعالجة هذه الأخطاء بشكل جذري بما يضمن سير الخدمات بشكل صحيح وباتجاه الأهداف المحددة.
من يقوم بعمليات التطوير الإداري لابد له من امتلاك مقومات معينة، وهي ذاتها التي يتوجب عليها نقلها كمعرفة ومن ثم ممارسة لبقية الموظفين بغية تأسيس بيئة سليمة إداريا تمتاز بالديمومة والكفاءة، ومن هذه المقومات القدرة على صناعة القرار بشكل سليم واتخاذ القرار، في الوقت المناسب وحل المشكلات والعمل تحت الضغوط والتفكير الابتكاري بالأخص إن اقترن بحسن التصرف في المواقف المعقدة، إضافة إلى القدرة على إدارة التعاملات الصعبة والاختلافات العملية بين الأفراد من داخل المؤسسة ومن خارجها.
طرق تطوير منظومات العمل هنا تبدأ من تعزيز التعاون بين الوحدات الإدارية لضمان التكامل بينها، مع الالتزام التام بالأنظمة والقوانين أو تغييرها إن لزم الأمر، وضرورة تنقية أجواء العمل والقضاء على أي فساد أو محسوبيات أو تكتلات. أما في جانب الأفراد فمهم نقل الخبرة لهم عبر التدريب الذي يكسبهم الأطر النظرية والعملية، بالإضافة إلى تعزيز التعلم من خلال الخبرة التطبيقية التي ترسخ السلوك الفردي والمؤسسي، كما يتوجب تشجيعهم لحضور المؤتمرات الإدارية المتخصصة والمشاركة الدورية في محاضرات التطوير الإداري، وكل جوانب التطوير هذه تستوجب تخصيص موازنات هدفها البناء المعرفي والسلوكي من خلال الاستثمار في رأس المال البشري.
ومن الطبيعي جدا أن توجد مقاومة لعمليات التطوير الإداري، والأسباب هنا متعددة منها شرعية وأخرى غير شرعية على رأسها التخوف من ألا تكون عمليات التغيير في صالح الموظفين إن كانت تهدف لإعادة هندسة العمليات أو إعادة هيكلة المهام والوظائف بشكل يؤثر على الترقيات أو يزيد أعباء العمل ووقته، أيضا قد تكون المقاومة بسبب تعارضها مع أوضاع شخصية لأفراد يخشون فقد مواقعهم أو تأثيرهم، ويتصدر أسباب المقاومة وجود سوء فهم بشأن الدوافع من وراء التغيير أو الفوائد المتحصلة منه.
للتعامل مع هذه المقاومة يجب أولا نشر ثقافة التطوير الإداري داخل المنظمة وبيان أهميتها والفوائد التي ستعود بها، كما إنه من المهم طمأنة الموظفين بعدم وجود أمور غامضة، وذلك عبر بيان مسارات التطور والمستقبل الواعد للجميع وخصوصا للمجتهدين العاملين من الموظفين، مع أهمية تحديد المسئوليات الواجب الالتزام بها بشكل واضح.
التطوير الإداري عملية تؤسس لنظام قوي وفعال يمتاز بأجواء مثالية للعمل المتكامل المنظم، ويكون قادرا على تحسين قدرات أفراده ويكسبهم مهارات متقدمة وتفوقا معرفيا يجعلهم أكثر فاعلية في تأدية أعمالهم، فالتطوير الإداري يسهم في إزالة كافة العقبات التي تعيقهم لتأدية مهامهم وبالتالي هناك ارتباط قوي بينه وبين ارتفاع الإنتاجية.
أخيرا من المهم إدراك أن عملية التطوير الإداري إن تمت بصورتها المثالية، فإنها ستحقق نتائج فارقة وستسهم في القضاء على ظواهر وممارسات عديدة خاطئة كالتجاوزات الإدارية أو الفساد، وبذلك تعد هي الوسيلة الأقوى لصناعة أوساط مهنية نموذجية، تدار بكفاءة من قبل إدارات وطواقم متفوقة ومؤهلة.