بيئة العمل المنتجة، هي تلك البيئة التي يعمل فيها الموظف بدافعية وحماس بسبب أريحيتها ومثاليتها التي تشمل كافة الجوانب، لكن حينما تتحول بيئات العمل إلى أوساط طاردة للموظفين بسبب سلوكيات إدارية غير سليمة أو تفشٍ لممارسات لا تمت بصلة للإدارة الصالحة، هنا الضرر لا يتوقف عند الفرد نفسه بل يشمل منظومة العمل بأكملها وقد يقودها للانهيار أو الفشل. الأسباب عديدة، تلك التي تحول بيئات العمل إلى بيئات طاردة للطاقات والكفاءات، وبيئات لن تحقق الأهداف المرجوة منها، وهنا سنتناول أحد أهم وأخطر الأسباب التي قد تقود لذلك، وهي ما يُعرف بـ”التنمر الإداري”.
يمكن اختصار وصف ظاهرة “التنمر الإداري” على أنها: “سلوك عدواني تجاه فرد أو مجموعة، قد يصدر من مسئول أو زميل في موقع العمل، يتم فيه استغلال السلطة الإدارية من الجانب الشخصي للمسئول للاستهداف والإساءة الموجهة لشخص ما بغير حق، وهو سلوك يوصف بأنه أقسى أنواع الفساد الإداري وأخطره تأثيرا على مواقع العمل والكوادر فيه، وقد يدفعها إلى ترك العمل أو يفرض عليها التراجع في إنتاجيتها أو القيام بردات فعل غير متوقعة”.
هذه الظاهرة تسعى المؤسسات لمحاربتها، بالأخص تلك التي تعمل باستمرار على تطوير منظومة الإصلاح الإداري وتفعليها في كافة مواقع العمل فيها، حيث أن مواقع العمل تقوم على التعاملات بين أفرادها وفق ضوابط ولوائح إدارية تحدد نوعية وكيفية إدارة هذه التعاملات بما تحدده التراتبية الإدارية والعلاقة المهنية بين الرؤوساء والمرؤوسين في إطار القيم الإنسانية، وكيف أن لهذه العلاقة الإدارية تأثيراً مباشراً على تحويل مواقع العمل إما إلى مواقع إيجابية تتميز بالعطاء والإنتاجية والولاء المؤسسي، أو مواقع سلبية تطغى فكرة الهروب منها على التفكير في الإنجاز والعمل. إذ البيئات التي تسود فيها عمليات “التنمر الإداري” تجدها بيئات عمل تسود فيها مظاهر هامة أولها غياب “الأمان الوظيفي”، وثانيها “كره العمل”، وثالثها “ثقافة الفشل” بسبب تضاؤل نسبة الدافعية لتحقيق الأهداف.
الكثير من الشركات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة العالمية منها والمحلية والمؤسسات الحكومية الشرقية منها والغربية تعد مثالا يُحتذى، والسبب يعود لبيئة العمل التي صنعها القائمون عليها، فالتراتبية الإدارية واضحة، لكن الأساس في العمل يقوم على الإدارة التي تحكمها القيم النبيلة، التي تحترم فيها إنسانية البشر، وتحفظ لهم حقوقهم وكرامتهم، في ظل وجود تشريعات عادلة تمنع وتجرم المسؤولين وأي أفراد آخرين من ممارسة سلوكيات إدارية خاطئة، من خلالها يتم استهداف أفراد لفظيا أو جسديا أو فكريا، أو إيقاع ظلم إداري متعمد بحقهم، بما يحطم أحلامهم، أو يدمر طموحاتهم، أو يهينهم مهنياً ونفسياً.
للتنمر الإداري أنواع متعددة، أشهرها تعمد الإساءة للموظف باللفظ أو تعمد الحط من قدره أو تحقيره أمام الآخرين، وذلك بالاستناد على السلطة الإدارية، وقد يكون على هيئة إجحاف متعمد لحقوقه الوظيفية مثل الحوافز والترقيات لأسباب غير مهنية، أو قد تكون عبر الانفراد بالقرارات وفرضها بأسلوب السيطرة على الموظفين، أو من خلال التهديد وإشاعة أجواء من الخوف والقلق.
هذا السلوك الإداري الخاطئ له مضاره وسلبياته العديدة على مواقع العمل والعاملين فيها، فبالإضافة لتحويله بيئات العمل إلى بيئات طاردة للقوى العاملة والكفاءات، فإنه يتسبب في خسائر جسيمة للمؤسسات خاصة في رأس مالها البشري وأيضا في استثمارها فيهم لتحقيق الإنجاز المطلوب والأهداف المرصودة، ما يعني أيضا إضرارا في رأس المال الفعلي، والضرر يكون كبيرا جدا إن كانت هذه القطاعات خدمية وملزمة بتقديم الخدمات بديمومة واستمرارية وبجودة عالية للجمهور المستهدف، كما تقود هذه السلوكيات لتشويه سمعة القطاعات إن وصلت هذه الممارسات إلى علم المجتمع.
ما هي الحلول؟ وهل يجب السكوت عن “التنمر الإداري”؟ هذه أسئلة هامة والإجابة عليها موجودة في اللوائح والتشريعات الإدارية العامة، والتي فيها حفظ لحقوق العاملين وبيان لكيفية التقدم بالشكاوى والتظلمات إن تعرضوا لمثل هذه الممارسات، وهو الأمر الذي يمثل رادعا لمن يستغل السلطة الإدارية لإيقاع الظلم والضرر المتعمد على الموظفين. أما في حالات التنمر الإداري التي تحصل بين زملاء العمل في نفس المستوى أو مستويات متباينة، فإن المسئولية تقع على كاهل أصحاب القرار في مواقع العمل لإنهاء هذه السلوكيات وتطبيق اللوائح والأنظمة على من يمارسها، وهو ما سيؤسس لنماذج إيجابية للآخرين برفض استمرارية هذه السلوك، كما سيعزز ثقة المتعرضين للتنمر بالأنظمة الإدارية ويدفعهم للتبليغ عن حالات مماثلة، الأمر الذي سيقود لاختفاء هذه الظاهرة بشكل تدريجي من مواقع العمل.
كما أن حفظ حقوق الموظفين من ممارسي “التنمر الإداري” مسؤولية الأجهزة الرسمية المعنية في الحكومة، لأن استمرار هذه الممارسات يلقي بضرره على الجهاز الإداري بالضرورة، وهنا تكون الحماية من الجهات الرسمية العليا ممثلة بـ”القانون الإداري” الذي يبين للموظف حقوقه وواجباته، وأيضاً يحميه عبر تنويره بكيفية التصرف في مواجهة هذه الحالات، وإلى أي جهة يلجأ بشكل إداري صحيح حتى يتم إنصافه.
نجاح عمل القطاعات يعني نجاح عمل الحكومة، وهو ما يعني تحقيق الأهداف العليا للدولة، وكلها أمور لا تتحقق إن لم تكن هناك بيئات عمل صالحة، وبيئات تصنع من قبل قيادات إصلاحية تمارس الإدارة بشكلها الصحيح، وعليه فإن حماية الموظفين، وضبط أداء المسؤولين مسألة هامة حرص المشرع والمنظم للقطاعات على وجودها وتطبيقها، عبر دراسة الحالات المرصودة، وفتح المجال للمتضررين لإيصال قضاياهم للجهات الإدارية الأعلى، مثل دواوين الخدمة والمحاكم الإدارية ودواوين التظلم والشكاوى في الحكومة.