تطرقنا فيما سبق ضمن هذه السلسة إلى مصطلح “إدارة الأزمات” وعرفناه بأنه علم يتكون من “عمليات تتضمن التنبوء بالإشكاليات والأزمات المتوقعة وتحديد الإجراءات الممكن أو المفروض إتباعها حال حدوثها؛ بهدف السيطرة والتعامل مع وضع مفاجئ أو طارئ يسبب أضرارا جسيمة وخللا في استقرار النظام الإداري ويعرقل العمليات الاعتيادية، وتسعى هذه العملية إلى إعادة التوازن عبر إجراء تغييرات ومعالجات سريعة، ويتعدى المفهوم حل المشكلة الآنية ليشمل منع حدوثها من الأصل ومعالجة مسبباتها كي لا تحدث من الأساس أو تعاود الحدوث في المستقبل “. (راجع مقال إدارة الأزمات).
والأزمات بشتى أشكالها ودواعيها وتبعاتها شر لا ضرار منه، فهي نتاج طبيعي للواقع الذي نعيشه والذي يتسم بالتقلب (Volatility)، وعدم اليقين (Uncertainty)، والتعقيد (Complexity) والغموض (Ambiguity)، وهو ما يُعرف اختصارا بـ(VUCA).
والحديث عن إدارة الأزمة يقود للحديث بالضرورة عن الإجراءات والعمليات المطلوب اتخاذها بعد انتهائها، وهنا في ظل ما يشهده العالم اليوم من تحديات بسبب جائحة كورونا ظهر مصطلح جديد نوقش في محافل ومؤتمرات عالمية تحت مسمى “الحكومات بعد الصدمة” في سعي من قبل الباحثين والممارسين وممثلي الحكومات لرسم أفضل السيناريوهات المستقبلية للتعامل مع هكذا كوارث أو ما يمكن تسميته بـ”الصدمات” لحصولها بشكل صادم ومفاجئ.
إدارة ما بعد الصدمة يمكن تعريفها على أنها: “عملية تبدأ خلال الأزمة لتستمر بعدها، تتضمن تقييما شاملا لكل الممارسات والمنهجيات والأساليب المستخدمة والنتائج المتحققة وتحدد الجوانب الإيجابية والسلبية والتي من خلالها يتم تغيير الاستراتيجيات أو تطويرها بما يخلق جهوزية عالية للتعامل مع أية صدمات أو أزمات طارئة في المستقبل وبأعلى مستويات السيطرة والتكييف والنجاح في تفادي تداعياتها وآثارها السلبية”.
يقول الأمين العام لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إنجيل غوريا في شأن إدارة ما بعد الصدمة: إن “العودة إلى الوضع الطبيعي هو آخر شيء نريده، لأن الوضع الطبيعي الذي كان لدينا من قبل لم يكن جيدا بما يكفي”. وهنا يشير غوريا بوضوح إلى خطأ العودة للروتين السابق في عمليات الإدارة بعد انتهاء الأزمات، إذ أن أي صدمة فجائية وغير متوقعة لابد وأن تفرض عليك مسارات إلى الأمام، إذ العودة للوراء وإلى الوضع السابق كفيل بأن يكرر نفس السلبيات والأخطاء التي كانت سببا في وقوعنا في الأزمات.
الأزمات تفرض عمليات إدارية وعملية مختلفة خاصة إن كانت تتعلق بأزمات توصف بأنها “صدمات” قد تحصل بشكل غير مسبوق أو تأتي مع تعقيدات وتطورات مستمرة نتيجة ظروف متغيرة، كما هو الحال حاليا مع “وباء كوفيد 19″، وبالتالي هذا النوع من الصدمات يجبر الجميع كحكومات ومؤسسات وأفراد على عملية تكيف لازمة لتغيير حياتهم بما يضمن مواجهتهم لضروف خارجة عن إرادتهم.
إن كانت العمليات الإدارية الصحيحة هي التي تنجح في إدارة الكوارث والأزمات بشكل صحيح يخفف من وطأتها وتأثيراتها، فإن إدارة ما بعد الصدمة هي الكفيلة بتجنب تكرار هذه الصدمات وتداعياتها من خلال الاستفادة من التجارب التي تم خوضها على مختلف الأصعدة في سبيل التغلب عليها.
خلال مواجهة الأزمات الحكومات أو النظم الإدارية بحاجة إلى أن تتبنى استراتيجيات جديدة، أن تتصرف بسرعة وفق اجراءت معينة لاتخاذ قرارات حاسمة وربما مصيرية، يمكنها أن تبتكر وتتكيف مثلما حصل في تطبيق سياسة العمل عن بعد وإقامة الاجتماعات عبر التقنيات الحديثة، وهذه أمور طبقت وأثبتت نجاحها في ديمومة العمل على مختلف الأصعدة بنسبة عالية، كما أنها قدمت نماذج إيجابية لربط العمليات المشتركة بين القطاعات في إطار التعاون المستمر باعتبار أن الأزمات بالضرورة توحد القطاعات إذ التحديات مشتركة وكذلك الأهداف والسعي لتحقيقها يتطلب سرعة وفاعلية وعمل مشترك ومتناغم. بالإضافة إلى ذلك نهجت الحكومات عبر نظمها الإدارية إلى التحول الرقمي بشكل تسارعي أكثر عن السابق لما شكله من عامل آمن يمنع الاختلاط البشري، بموازاة ذلك عمدت غالبية الأنظمة إلى تعزيز الثقة مع المجتمعات من خلال إشراك المجاميع في صناعة القرار عبر الاستماع لهم وإستقصاء آرائهم من خلال البيانات واستطلاعات الرأي وأية وسائل أخرى للتعبير، إذ التغلب على أية أزمة لابد وأن يُبنى على المشاركة الشاملة والتي من خلالها يتم تعزيز الثقة بين جميع الأطراف المعنية.
بعد انقضاء الأزمة تأتي مرحلة “إدارة ما بعد الصدمة” وهنا يبرز السؤال الأهم، إذ: “كيف يمكن الحفاظ على طرائق العمل الناجحة التي طبقت وضمان ديمومتها حتى خارج وقت الأزمات؟!”.
إدارة ما بعد الصدمة لابد وأن تُبنى على أسس ذكية تستفيد من التجارب والخبرات المتراكمة خلال الأزمة، لأن أي صدمة هي في أساسها فرصة للتعلم من الأخطاء لتجنب تكرارها، فهي فرصة لصناعة مستقبل أفضل، وفرصة لتعزيز التعاون الحكومي والمجتمعي في مواجهة هذه التحديات المعقدة والتي تتطلب حلولا مبتكرة.
هناك بالضرورة سياسات ومنهجيات عمل لابد وأن تتغير وتحل محلها أساليب أفضل وأكثر فاعلية، إذ الصدمات تكشف وجود بعض السياسات التي لا تناسب المستقبل، وتفرض في المقابل عملية رسم لسيناريوهات مستقبلية تتطلب استقراءات ومساعي لوضع معالجات مسبقة لها حتى لا تتحول أي أزمة قادمة إلى صدمة جديدة.
هنا التفكير النقدي للأداء الإداري والعمل مهم بعد انتهاء الصدمة، ففرص التعلم الجماعي كبيرة جدا، خاصة مع ضرورة إعادة النظر فيما نقوم به من عمليات، إذ الصدمات تكشف الثغرات في الاستعدادات لأنها تتحدى الإمكانيات والقدرات الحالية، بالتالي ركزت الحكومات والأنظمة الإدارية في هذا الشأن على تساؤلات هامة، إجاباتها تصنع خارطة طريق للتعامل في مرحلة ما بعد الصدمة، منها: ما الذي نحتاج للاحتفاظ به من إجراءات وسياسات سابقة؟ وما الذي يجب تركه وتغييره؟ وما الذي يجب أن نفعله بشكل مختلف؟
للإجابة على هذه التساؤلات بشكل واقعي لابد من وضع المنهجيات موضع الاختبار، سواء أكانت الأساليب المستخدمة، أو سرعة التحرك وآليات صناعة اتخاذ القرار، أو طرق التواصل مع الجمهور، أو آلية المشاركة الشعبية (Engagement) في صنع القرار، أو إيجابيات التحول السريع للرقمنة دون التأثير على العنصر البشري.
إدارة ما بعد الصدمة فرصة لتحقيق إصلاح شامل في الأنظمة الإدارية، تقوم على صناعة رؤية جديدة من خلالها تُخلق منهجيات جديدة لمواجهة المستقبل بطرق استباقية من مثل منهجيات وآليات حوكمة الابتكار الاستباقي (Anticipatory Innovation Governance)، وتعزز في جانب هام عملية التعلم المستمر والحاجة للتجريب (Experimentation) مع استثمار الفشل الذي يقود إلى تشخيص مسبباته لاستخلاص وتوثيق أفضل الممارسات والطرق للتعامل مع الصدمات في المستقبل، والذي يؤهل الحكومات لتصبح أكثر مرونة وديناميكية في مواجهة التحديات وصناعة المستقبل.